ثالثا: كفاية المنهج القرآني في تقرير مسائل العقيدة.
ثالثا: كفاية المنهج القرآني في تقرير مسائل العقيدة.
يطرح البحث العقدي إشكالية كفاية المنهج القرآني في إثبات مسائل العقيدة واستيعاب ما يحتاج منها الفرد لإقامة دينه وتحصين عقيدته، فأما الفريق المثبت لفكرة أن القرآن أسس لمنظومة عقدية متكاملة فهم أغلب علماء الأمة من المتكلمين والفقهاء والمحدثين، واستندوا إلى الأدلة الآتية:
- ما جاء في القرآن من إكمال الدين وإتمام النعمة: قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، قال أبو الحسن الأشعري في تفسيرها: "وأكمل الله عز وجل لجميعهم طرق الدين، وأغناهم عن التطلع إلى غيرها من البراهين، ودل على ذلك بقوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وليس يجوز أن يخبر الله عز وجل عن إكماله الدين مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم الدينَ به "[1].
- ما جاء في السنة من أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بمهمة البلاغ على أتم وجه: ففي حديث خطبة حجة الوداع يوم النحر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس: « اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت » . قال ابن عباس رضي الله عنهما فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته « فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض »[2]. قال الأشعري: "وبين النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك في حجة الوداع لمن كان بحضرته من الجم الغفير من أمته عند اقتراب أجله، ومفارقته لهم صلى الله عليه وسلم بقوله: الله هل بلغت، فلو كنا نحتاج مع ما كان منه عليه السلام في معرفة ما دعانا إليه إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال لما كان مبلغا، إذ كنا نحتاج في المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها، ولو كان هذا كما قالوا لكان فيما دعانا إليه وقوله بمنزلة اللغو"[3]. ومن السنة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: « قد تركتكم على البيضاء . ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك »[4]
- إجماع السلف على كفاية المنهج القرآني: قال الرازي: "أقر الكل بأنه لا يمكن أن يزاد في تقرير الدلائل على ما ورد في القرآن "[5]، ونقل ابن الوزير اليماني الإجماع على ذلك، فقال: "إجماع علماء الإسلام من جميع الطوائف على أن القرآن يفيد ما ادعيت من معرفة أدلة التوحيد من غير ظن ولا تقليد، وكما أن المتكلم ينظر في كتب شيوخه لتعلم منها الأدلة من غير تقليد غيره، فكذلك من نظر في القرآن يتعلم منه الأدلة من غير تقليد، بل القرآن العظيم هو الذي تعلم منه المتكلمون النظر، لكنهم غالوا في النظر ولم يقتصروا على القدر الكافي النافع المذكور في كتاب الله تعالى "[6].
- عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة: فالقول بعدم كفاية المنهج القرآني يستلزم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لمن دعاهم كل ما يحتاجون إليه فيما كلفوا به من الاعتقاد، وهذا ضرب من تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز بإجماع العلماء، قال الإمام الأشعري: "وأنه عليه السلام لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفه لهم "[7].
أما الرأي الآخر القائل بعدم كفاية المنهج القرآني في تقرير مسائل العقيدة فقد تبناه بعض المستشرقين والباحثين المعاصرين، منهم:
- المستشرق الهولندي دي بور boer ت1942 ، في كتابه تاريخ الفلسفة في الإسلام، حيث نفى في كتابه أن يكون القرآن مشتملا على مسائل العقيدة، فقال: "جاء القرآن للمسلمين بدين ولم يجئهم بنظريات، وتلقوا فيه أحكاما ولكنهم لم يتلقوا فيه عقائد"[8].
- يرى الدكتور عبد الحليم محمود أن الوحي اقتصر فيما قدمه من حقائق عقدية على ما يملأ الفراغ الروحي للناس المشغولين بشؤون حياتهم العملية، وهذا الفراغ محدود بالنسبة لذوي الطاقات العقلية أو الروحية العالية المتفرغة للتحقق بمزيد من حقائق الوجود، فلا بد لهؤلاء من استشراف مصدر آخر يبلغون به مأربهم، ويقول بأن الحس عاجز عن الوصول بنا إلى الحقائق الغيبية، لأننا لا نحسها، والعقل مبني على الحس قاصر كذلك، والنصوص الدينية لا تؤدي بنا إلا إلى نوع من المعرفة غير المباشرة، أو التسليم، أو التفويض، وليس ذلك من المعرفة المباشرة في شيء، فإِلَامَ نتَّجه؟ إلى طريق البصيرة لتي تستطع أن تستشرف الملأ الأعلى والعالم الروحاني إذا سما الإنسان على المادية[9].
- يقول فريق آخر بقصور القرآن عن إقامة أسس علمية للعقيدة الإسلامية، حيث يرى أن القرآن اعتمد على العاطفة في حمل الناس على الأخذ بالعقائد ولم يعتمد الأدلة العقلية، ومعلوم أن العاطفة أساس غير علمي، ولا بد للعقيدة باعتبارها أصلا للدين كله أن تقوم على أساس علمي، ونقل هذا ابن تيمية عن بعض السابقين من المتكلمين والفلاسفة[10]، ومما يقارب هذا القول عند المعاصرين قول أبي الوفاء الغنيمي في كتابه دراسات في الفلسفة: "القرآن لا يعتمد على العقل في تثبيت العقائد في قلوب المؤمنين اعتمادَه على العاطفة والوجدان، أما دعوة القرآن إلى النظر وتدبر الآيات فهو يخاطب القلوب أكثر مما يخاطب العقول"[11].
- وهناك رأي يحدد قصور المنهج القرآني في عدم استيعابه الثقافة المعاصرة، فيرى أن العقيدة الناتجة عن النصوص تبدو مُعارِضَةً لفلسفة العلم المعاصر، الذي أثبتت منهجيَّتُه ثمارها القوية والتي لابد للمسلمين من الأخذ بها، والمقصود الأخذ بالرؤية الفلسفية الغربية للكون والإنسان والحياة والتخلي عن التصورات الإسلامية التي جاء بها الوحي، وينسب هذا التوجه لزكي نجيب محمود في كتابه تجديد الفكر العربي، وحسن حنفي في كتابه تحديث العقل العربي، ومحمد عابد الجابري في كتابه إشكاليات الفكر العربي المعاصر[12].
[1]- الأشعري، رسالة إلى أهل الثغر، ص:198.
[2]- صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، رقم:1652.
[3]- رسالة إلى أهل الثغر، ص:200، 201.
[4]- سنن ابن ماجة، رقم:43.
[5]- نقلا عن: ابن الوزير اليماني، ترجيح أساليب القرآن، ص:23.
[6]- ابن الوزير اليماني، ترجيح أساليب القرآن، ص:17.
[7]- رسالة إلى أهل الثغر، ص:176. عبد الحميد مومن، التأصيل القرآني للعقيدة عند الإمام أبي الحسن الأشعري، ص:74.
[8]- عبد الحميد مومن، التأصيل القرآني للعقيدة عند الإمام أبي الحسن الأشعري، ص:64.
[9]- عبد الرحمن الزنيدي، مناهج البحث في العقيدة الإسلامية في العصر الحاضر، ص:310، عبد الحليم محمود، أبحاث في التصوف، ص:124، عبد الحميد مومن، التأصيل القرآني للعقيدة عند الإمام أبي الحسن الأشعري، ص:66.
[10]- ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص28.
[11]- أبو الوفاء الغنيمي، دراسات في الفلسفة الإسلامية، ص17. عبد الحميد مومن، التأصيل القرآني للعقيدة عند الإمام أبي الحسن الأشعري، ص:67.
[12]- عبد الرحمن الزنيدي، ص:312.