تتمة: منهج القرآن في إثبات وجود الله

. مسلك النظر في الآفاق:

والمسلك الثاني الذي نجده في القرآن يتعلق بالكون الفسيح الممتد من الأرض وما في باطنها وما هو على ظهرها إلى السماء وعوالمها، وأدلته هي:

2. 1 دليل العناية: وجه دلالته على وجود الله سبحانه أن جري الكون وحركة الأفلاك على القدر الذي يحتاجه الإنسان، وعلى وفق مصالحه، دليل على وجود مقوم قومه ومرتب رتبه، إذ لا يصح وقوعه مرتبا على هذا النحو من العناية اتفاقا دون خلل ولا تعطيل في نظامه.

ويقوم هذا الدليل على شاهد الحس والمشاهدة في كونها مسخرة للإنسان موافقة للمقصد من إقامته على الدنيا، من ذلك ترتب الليل والنهار على حركة الشمس والقمر ودوران الأرض، وفي تتابع الليل والنهار من الحكم ما لا يخفى.

يقول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]

ويقول أيضا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] يقول أبو الحسن الأشعري: "فدلَّهم تعالى بحركة الأفلاك على القدر الذي بالخلق الحاجة إليه في مصالحهم، التي لا تخفى مواقع انتفاعهم بها، كالليل الذي جُعل لسكونهم، ولتبريد ما زاد عليهم من حر الشمس في زروعهم وثمارهم، والنهار الذي جعل لانتشارهم وتصرفهم في معايشهم على القدر الذي يحتملونه في ذلك، ولو كان دهرهم كله ليلا لأضر بهم ما فيه من الظلمة التي تقطعهم عن التصرف في مصالحهم، وتحول بينهم وبين إدراك منافعهم، وكذلك لو كان دهرهم كله نهارا لأضر بهم ذلك .."[1].

2.2 دليل الحدوث:

وجه دلالته أن اختلاف هيئات السماوات والأرض، في ارتفاع السماء واتساعها مع ما فيها من الكواكب المختلفة، وانخفاض الأرض وكثافتها، واختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وتقارضهما في الطول والقصر، دليل على حدوث هذا الكون، وحدوث الكون دليل على وجود محدث له، إذ لا حادث إلا وله محدث. وشاهده هو الحس من حركة الأفلاك وانتقالها، وتحول هيئتها.

2. 3 دليل افتقار العالم إلى ممسك:

وهو استمداد من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].

وجه دلالته على وجود الله تعالى: أن السماوات والأرض وما فيهن مع ثقلهن وعظم جرمهن، مستمسكات في الهواء، ولا يجوز أن يكن كذلك إلا بممسك، لأن الثقيل لا يستمسك في الهواء إلا بممسك، كما لا يجوز أن يكون هذا الممسك إلا الله سبحانه وتعالى، لأن إمساك السماوات والأرض مع الحفاظ على ما فيهن من نظام موافق لمصلحة الإنسان لا يمكن أن يكون إلا من إله قادر عليم.

وإذا ثبت في شاهد الحس أن السماوات والأرض وما فيهن ثقال على أي قدرة مخلوقة، وبما علم ضرورة أن الثقيل لا يستمسك في الهواء إلا بممسك، فدل على أن الممسك لها هو الله بقدرته وحكمته.

يقول أبو الحسن الأشعري: "ودلهم على حاجتها وحاجة الأرض وما فيها من الحكم، مع عظمها وثقل أجرامها إلى إمساكه عز وجل لهما بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]، فعَرَّفَنا تعالى أن وقوفهما لا يصح إلا أن يكون من غيره، وأن وقوفهما لا يجوز أن يكون بغير موقف لهما "[2].

ويقول ابن الوزير اليماني في سياق استدلاله بالآية السابقة: "وهذه حجة أجمع عليها الكفرة مع المسلمين، فإن الجميع اتفقوا على أن العالم في الهواء أرضه وسماؤه وما فيه من البحار والجبال وجميع الأثقال، وقد ثبت بضرورة العقل أن الثقيل لا يستمسك في الهواء إلا بمُمسك، وأن هذا الإمساك الدائم المتقن لا يكون بما لا يعقل من الرياح كما زعمت الفلاسفة، على أن الرياح تحتاج إلى خالق يخلقها .."[3].



[1]- أبو الحسن الأشعري، رسالة إلى أهل الثغر، ص:151.

[2]- أبو الحسن الأشعري، رسالة إلى أهل الثغر، ص:155.

[3]- ابن الوزير اليماني، إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات الى المذهب الحق من أصول التوحيد ، ص54.