منهج القرآن في إثبات السمعيات

تاسعا: منهج القرآن في إثبات السمعيات.

المقصود بالسمعيات هي العقائد الغيبية التي ثبتت بالنقل، ودليها قائم على ما ثبت في الوحي فقط، فمصدر هذه العقائد ما أخبر به الرسل عن الله تعالى، وذلك مترتب على دلالة المعجزة التي أظهرها الله لنبيه فأثبتت صدق الرسول فيما أخبر به عن ربه، ومن الأصول السمعية في القرآن الكريم:

- الحياة الآخرة: أخبرنا القرآن الكريم عن حقيقة الحياة الآخرة، وأن فيها دار النعيم المقيم أو العذاب الأليم[1]، واليوم الآخر لا سبيل إلى إثباته إلا بالوحي، لكن القرآن الكريم علل وجوده بمقتضيات الإقناع العقلي:

- يقول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116]، فالآية تدل على أنه لو لم يكن هناك يوم وراء هذه الحياة تقام فيها الموازين العادلة بين الناس، ويجازى من عمل صالحا ويستحق العقاب من عمل سيئا، لو لم يكن هذا اليوم لكانت عملية الخلق في الدنيا ضربا من العبث، والله سبحانه منزه عن العبث[2]

- يقول تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } [ص:28] ، ويقول سبحانه: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، ويقول أيضا:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35،36] هذه الآيات ترد في سياق واحد وهو أنه سبحانه وتعالى من حكمته أنه لا يساوي بين الصالح والفاجر أو المؤمن والكافر، وقد تكون الدنيا للفاجر والكافر ويطغى بها على غيره، فكان وقوع اليوم الآخر ضرورة ملحة لإقامة العدل الإلهي، يقول البيضاوي: "والآية تدل على صحة القول بالحشر، فإن التفاضل بينهما إما أن يكون في الدنيا، والغالبُ فيها عكس ما يقتضي الحكمة فيه، أو في غيرها، وذلك يستدعي أن يكون لهم حالة أخرى يُجازَوْنَ بها "[3].

- الجنة والنار: المرحلة الأخيرة التي يتم فيها الثواب والعقاب هي الجنة والنار، أو دار النعيم ودار العذاب. وأخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أن الجنة في الآخرة هي مأوى المؤمنين به والمسلمين له، وأنها مراتب ودرجات، تتناسب مع مستوى الإيمان والمعرفة والعمل الصالح الذي قدمه مستحقها في الحياة الدنيا، أما النار في الآخرة فهي مثوى الكافرين بالله والمستكبرين عن طاعته وعبادته، وأنها منازل ودركات، تتناسب مع مستوى الإجرام والمعصية. قال تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81، 82] وقال: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزخرف: 72]، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 74 - 76]، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].

كما أخبرنا القرآن الكريم أن المؤمنين العصاة إذا لم يشملهم عفو الله عز وجل فإنهم يعذبون في نار جهنم على مقدار معاصيهم، ثم يخرجون منها إلى الجنة بسبب الإيمان بالله الذي كان في قلوبهم في الدنيا، يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود: 106 - 108] واستدلوا كذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] والإيمان خير، فلا بد أن يلاقي الأجر عليه، ويكون ذلك بعد تطهيره من العذاب[4].

اللهم اجعلنا من أهل الجنة وارزقنا نعيمها الأبدي، آمين.



[1]- محمد أبو زهرة، العقيدة الإسلامية كما جاء بها القرآن، ص:92.

[2]- الميداني عبد الرحمن حسن حبنكة، العقيدة الإسلامية، ص535.

[3]- البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج05، ص28.

[4]- الميداني عبد الرحمن حبنكة، العقيدة الإسلامية وأسسها، ص :567.