رابعا: منهج القرآن في إثبات وجود الله تعالى.

الكلام على سائر العقائد الدينية ينبني أساسا على إثبات وجود الله تعالى، لذلك كانت هذه المسألة أهم مسائل العقيدة، ورتبها علماء الكلام في أول مسائل الإلهيات، والدليل فيها عقلي، لأن صحة الشرع وحجيته لا تصح إلا إذا تم إثبات وجود الشارع، ولا يمكن إثبات ذلك بنفس الشرع، وإلا لزم توقف أحد الأمرين على الآخر، وهذا دور طاعن في الدليل.

ولذلك نجد حديث القرآن عن هذه المسألة يرتكز على المسلك العقلي، ويمكن تمييز مسلكين فيه: مسلك النظر في الأنفس، ومسلك النظر في الآفاق.

1. مسلك النظر في الأنفس: والآيات التي تحث عليه كثيرا جدا منها قوله تعالى: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14]، وهذا المسلك يبرز منه دليلان عقليان:

1.1 دليل الفطرة:

أول دليل على وجود الله تعالى ليس شيئا خارجا عن كيان الإنسان، إن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الشعور الطبيعي البصير الغامر، بأن فوق هذه الكائنات المحدودة المتناهية كائنا غير محدود ولا متناه، يهيمن على كل شيء ويدبر أمر كل شيء[1]. يقول ابن تيمية: " الإقرار بالصانع سبحانه فطري ضروري، أو معلوم بأدنى نظر وتأمل، يحصل لعموم الخلق "[2]، ويقول في موضع آخر: " الإقرار بالخالق فطري ضروري في جبلات الناس، لكن من الناس من فسدت فطرته؛ فاحتاج إلى دواء، بمنزلة السفسطة التي تعرض لكثير من الناس في كثير من المعارف الضرورية .. وهؤلاء يحتاجون إلى النظر، وهذا الذي عليه جمهور الناس أن أصل المعرفة قد يقع ضروريا فطريا، وقد يُحتاج فيه إلى النظر والاستدلال "[3].

ومن الأدلة التي جاء بها القرآن أن فطرة الخلق مجبولة على التوجه إلى الله إذا عرض لهم طارئ لا يدفعه إلا الله، قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } [لقمان: 32] وقال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] وقال أيضا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87].

1. 2 دليل الحدوث:

نجد في القرآن وصف مراحل خلق الإنسان مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14]، وإن تقلب الإنسان في سائر الهيئات المذكورة في الآية دليل على حدوثه، وحدوثُه دليل على وجود المحدث له، إذ لا حادث دون محدث.

وهذا الدليل ينبني على مقدمتين: أولاهما "الإنسان حادث" تنبني على دليلين: أن كل متغير حادث، ذلك أن تغير أي شيء يقتضي مفارقته للحال التي كان عليها قبل تغيره، وقدم أي شيء يقتضي عدم مفارقته للحال التي هو عليها. والثاني أن الإنسان متغير: ذلك أنه إذا كان تغير الهيئات يوجب حدوثها، وجب أن يكون ما عليه الأجسام ومنه الإنسان من التغير منتهيا إلى هيئات محدثة لم تكن الأجسام قبلها موجودة بل كانت معها محدثة، فتقلب الإنسان في سائر الهيئات دليل على حدوثه.

والمقدمة الثانية: "لا بد للحادث من محدث" وهذه مبنية على عدم جواز الترجيح دون مرجح، ذلك أن وجود الإنسان على هيئة مخصوصة وهي الموصوفة في الآية مثلا، وفي زمن مخصوص، مع أنه يحتمل أضربا كثيرة من الهيئات ويحتمل تقدمه في الزمان وتأخره، مما يدل على وجود مرجح رجح وجوده على هذه الهيئة المخصوصة وفي الزمن المخصوص.

وإذا ثبت أن كل متغير حادث، وأن الإنسان متغير وجب أن الإنسان حادث. وإذا ثبت أن الإنسان حادث، وأن المحدَث مفتقر إلى محدِث، ذل ذلك على وجود محدث لهذا الإنسان وهو الحق سبحانه.

ويعرض ابن رشد هذا الدليل باسم "دليل الاختراع" فيقول: " الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل إلى بابها إذا استقرئ الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما: طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلهما، ولنسم هذه دليل العناية. والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الحسية والعقل، ولنسم هذه دليل الاختراع "[4]،  ثم يقول: "وأما الآيات التي تتضمن دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } [الطارق: 5، 6]"[5].

ويرى ابن رشد كذلك أن هذا الدليل ينبني على مقدمتين ضروريتين لا تحتاجان إلى استدلال، يقول ابن رشد: "وهذه الطريقة [دليل الاختراع] تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس، أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } [الحج: 73]، فإننا نرى أجساما مادية ثم تحدث فيها الحياة فنعلم قطعا أن ههنا مُوجدا للحياة ومنعما بها، وهو الله تبارك وتعالى، وأما السماوات فنعلم من قبل حركتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مُخترَعٌ من قِبَلِ غيره ضرورة. وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مُخترَع فله مُخترِع، فيصح من هذين الأصلين أن للموجد فاعلا مخترعا له"[6]

ويسمى كذلك "دليل الخلق"، يقول ابن تيمية: « قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غنى عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد علم بالاضطرار، أن المحدث لا بد له من محدث، والممكن لابد له من موجد، كما قال تعالى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } [الطور:35] . فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق، ولا هم الخالقون لأنفسهم، تعين أن لهم خالقا خلقهم »[7]، كما أن أول آية نزلت نبهت على هذا الدليل، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق: 1، 2]

1. 3 دليل العناية:

وجه دلالته أن ما في هذه الهيئة المخصوصة التي صار إليها الإنسان من آلات معدة لصالحه موافقة لمصالحه، دليلٌ على وجود مقوم رتبها ومدبر دبرها، إذ لا يصح وقوعها مرتبة على هذا النحو من العناية اتفاقا.

ويقوم هذا الدليل على شاهد الحس، إذ الشواهد الحسية الدالة على موافقة الهيئة التي خلق عليها الإنسان لمصالحه كثيرة جدا، وهي مذكورة في كتاب الله تعالى على نحو مستفيض.

ويقوم هذا الدليل على مقدمات يقينية لأنها تدرك بالحس، يقول ابن الوزير اليماني: "الاستدلال بما في هذا العالم من عجائب المصنوعات، وغرائب المخلوقات وما في جميعها من الإحكام والإتقان المعلوم بالفطر حاجته إلى صانع أحكمه وعليم قدره"[8].



[1]- يوسف القرضاوي، وجود الله، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، 2006، ص:18.

[2]- ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج02،ص228

[3]- ابن تيمية، جامع الرسائل: رسالة في قنوت الأشياء، ص14.

[4]- ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص118.

[5]- ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص120

[6]- ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، ص119.

[7]- ابن تيمية، مجموع الفتاوى-الرسالة التدمرية، ج3، ص09.  

[8]- ابن الوزير اليماني، ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان،