المحاضرة الأولي : الاتجاه الكلاسيكي
تمهيد ــــ التعريف بالمذهب الكلاسيكي
يعدّ المذهب الكلاسيكي-Classicisme من أقدم المذاهب ظهورا وأشهرها تحكما في الإنتاج الأدبي عموما والمسرحي بوجه خاص، وجاءت أصوله تلقائية فرضتها الضرورة الفنية لذلك الزمان وتطوّرت عبر العصور حسب ما تقتضيه حاجة الدراما فيما يسمى بالكلاسيكية الجديدة أو الإتباعية.
وهو مذهب قام على الفطرة والموهبة والرغبة في المعرفة والإبداع الفني المسرحي "ونستطيع أن نلمس ذلك في موسيقى الشعر مثلا، فقد قال الشعراء شعرهم على إيقاع موسيقي قبل أن يأتي العلماء والنقاد فيضعوا تحليلا علميا لأنغام تلم الموسيقى الشعرية وإيقاعاتها ويحدّدوا بحور الشعر المختلفة وتفاعيله وقوافيه، أي ليحلّلوا نظريا ما انتهت إليه قوافل البشر بطريقة تلقائية"1 وهذا ما حصل للفن المسرحي خاصة وأنه قام في جوهره على الشعر التمثيلي ورقصات الكورس على إثر نغمات الديثرامب التي يقوم عليها الفعل المسرحي، فقد تكونت أولى النصوص المسرحية بكل عفوية وتلقائية وأسست أصولها الكتابية تدريجيا مع أول ظهور للمسرح في القرن الخامس قبل الميلاد ببلاد اليونان، وقننت لها عقول عبقرية كأسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس في مجال التراجيديا وأرستوفان (448-388ق م) في مجال الكوميديا، لترسى في الأخير نظرية الدراما على أصول وقواعد ثابتة من صلب المذهب الكلاسيكي عن طريق الفيلسوف "أرسطو طاليس" - ناقد الدراما الأوّل في التاريخ - في كتابه "فن الشعر" في القرن الرابع قبل الميلاد "استقى تلك القواعد والأصول من تحليله لروائع المسرحيات التي كانت قد مثلت فعلا أمام جمهور أثينا ونجحت وفازت بجائزة الدولة وخلدت على الأيام، وقد اهتــــــدى أرسطو عن طريـــــق تلك المسرحيات إلى ما قــــرّر من أصـــول الأدب المسرحــي، بل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـــــ محمد مندور، الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ،1999، ص3.
إننا لنحسّ أنّ الأصول مستمدة من مسرحية واحدة بذاتها اعتبرها أرسطو المثل الأعلى للتأليف المسرحي وأخذ يبحث عن سر تفوّقها وأسبابه، ويجعل من تلك الأسباب قواعد عامّة للأدب المسرحي، وهذه المسرحية هي مسرحية أوديب ملكا لسوفوكليس التي لا تزال الإنسانية تعتبرها أروع ما أنتجت عبقرية البشر من مسرحيات"1 وقد طبّق عليها أرسطو نظريته في الدراما نموذجا للمسرحية الكلاسيكية الملتزمة بقواعده المؤصلة في كتابه فن الشعر.
كان هذا الإبداع الصوفوكليسي وما تبعته من مآسي وكوميديات جيله الزمني أساس المسرح الكلاسيكي الإغريقي وكانت الجوقة العنصر الرئيسي في الدراما وعليها يقوم العرض المسرحي قبل ظهور الممثلين، وقد اتفق معظم الباحثين أن بداية ظهور الفن المسرحي بما في ذلك المأساة أو الملهاة اتسم بالعفوية وعلى غير خطة مرسومة بداية من تلك الشعائر والطقوس التي كانت تقام في مناسبات معينة كالاحتفال بأعياد ديونيسوس إله الخمر والملقب بالديثرامبوس-أي المولود مرتين- وكان نشيد الديثرامبوس متنوّع الأوزان وترجع له أصالة الشعر الدرامي أو كلاسيكيات اللغة الدرامية ونقصد في هذا المقام التراجيديا، أما الملهاة فأغلب الظن أنها استقت محتواها ولغتها وتشخيصها من الاحتفال الثاني لذكرى الإله ياخوس الألوتيري "وقد سمي كذلك لأن طقوسه قد وردت على الأثينيين من ألوتيريا Eleutheres، وهي مدينة من منطقة بيوسيا Beotie، وكان هذا الحفل يقام في شهر مارس، حيث يحمل تمثال هذا الرب من هيكله إلى دير خارج المدينة، وكل الخدمات تتكفل بها فتيات أبكار ينشدون أغاني فاحشة، بينما يتجمهر الشعب على أطراف الطريق مبديا ابتهاجه وسروره مما يشاهده"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـــــــــ محمد مندور، الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع،1999، ص4.
2ـــــــــ التيجيني بن عيسى، معجم مشاهر المسرح العالمي المسرح الإغريقي والروماني، مطبعة ميم تلمسان –الجزائر، 2012، ص10.
ومن المسرح الإغريقي إلى المسرح الروماني الذي يعود تاريخ ظهوره إلى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، ويعتبر امتدادا له حيث تمتد المدرسة الكلاسيكية بأصولها وقواعدها لكتابات الشاعر "سينكا" (4ق م- 65م) رائد المأساة الرومانية والتي تشبه لحد ما المأساة اليونانية بحكم أنّ الإغريق قد غزوا الرومان بثقافتهم وآدابهم وفنونهم "وكلّهم في البداية قد تبنّوا الأصول الدرامية اليونانية، واقتبسوا منها ما يتّفق، أو ما يمكن تحويره ليناسب الذوق الخطابي للجمهور الروماني، الذي يحب اللغة المنمّقة، كما يعشق مشاهدة الموضوعات المثيرة"1، كما شهدت الملهاة حضورا كبيرا مقارنة بالأعمال التراجيدية وقد نهجت كلتاهما النهج الكلاسيكي في الكتابة الدرامية مع بعض التغيير وذلك لطبيعة الشعب الروماني المرحة والذي كان يتلذّذ بالهزل الماجن والنكات الفاسقة المرتجلة "كانت الملهاة في القرن الثالث ق.م هي أفضل ألوان التسلية الدنيوية للمشاهدين الرومان، خاصة ملهاة الممثّلين الثرثارين Phylax وغيرها من أنواع الملهاة "2.
وكان لسينكا أثر كبير على كتاب المأساة من بعده على رأسهم "وليم شكسبير" لتتضح معالم الكلاسيكية الجديدة ابتداءا من العصر الروماني، وفيما يلي حصر لأهم النقط المثيرة في أعمال سينكا نموذجا لكتّاب التراجيديا الرومانية :
-شخصيات سينكا لا تعاني من الخطأ المأساوي كما هو الحال في المسرح اغريقي، ولكن بدلا من ذلك تنتابهم بواعث فردية تقودها إلى مصيرها المحتوم مثل الإفراط في الشر والانتقام والسحر والموت وظهور الأشباح وهذا واضح في مسرحية "هملت" لشكسبير الذي تأثّر بأسلوبه الدرامي.
- التقسيم الخماسي للمسرحية أي احتواءها على خمسة فصول، بالإضافة الى الحوارات الطويلة بين الشخصيات وكثرة تفاصيله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـــــــ شكري عبد الوهاب، تاريخ وتطور العمارة المسرحية، مؤسسة حورس الدولية للنشر والتوزيع، الإسكندرية، 2007، ص106
2ــــــ م ن ، ص ن.
-أبقى على استخدام الجوقة وهو تقليد إغريقي ، وهي عنده ليست مكمّلة للأحداث .
-تتميّز بطابع الميلودراما (مناجاة النفس، الأحاديث الجانبية) وعادة ما تكون الأحداث خارقة للطبيعة بالإضافة إلى الإثارة المشهدية، حيث يؤكّد "سينكا" على مشاهد القتل والعنف والطعن والانتحار، ففي مسرحيّته" ثيسبس" يغمد البطل سيفه في جسد أبناءه ثم يشرب من دمائهم المسفوكة. وفي مسرحية "أوديب" يؤكّد على انتحار جوكاستا بشق رحمها انتقاما منه وترى في أوديب اللعنة وهو الآخر يفقأ عينيه في مشهد دامي أمام الجمهور في قصدية قصوى للإثارة والتشويق الدرامي، وما نلاحظه أنّ الحبكة لدي سينكا مستوحاة من التراث الإغريقي في عملية إحياء وتجديد له، مما يثبت تشبّعه بمآسي الدراما الإغريقية لحد الالتزام الحرفي لأصولها لا التشابه الشكلي وفقط. وفي الحقيقة مثل هذا الالتزام وارد إلى يومنا هذا في أعمال الاتّباعيّين مع شيء من التصرّف والتغيير كل وفلسفته الخاصة مثل ما فعل توفيق الحكيم في عمله التراجيدي "أوديب"و"أجاممنون".
باختصار استمدّ المسرح الكلاسيكي أصوله الكتابية من التراث اليوناني والروماني القديم حيث اعتبر أساسا للمسرح الأوروبي الحديث بصفة خاصة وحضارة الغرب عموما، والكلاسيكية الجديدة التي تزامنت مع ظهور حركة النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي قامت على هجر ثقافة العصور الوسطى والرجوع إلى منابت الثقافة الأولى لليونان والرومان، لذلك كانت بداية النهضة بمحاكاة الآداب اليونانية القديمة بما فيها الأدب المسرحي، وحركة النهضة هذه سمّيت بحركة البعث أي بعث التراث اليوناني والروماني في الثقافة الاوروبية الحديثة أدبا أومسرحا "فكانت المسرحيات تكتب في أول عصر النهضة الأوروبية الحديثة على غرار المسرحيات اليونانية القديمة التي تجمع بيت التمثيل والغناء والموسيقى"2 في فصول حوارية وحضور الجوقة لدفع الأحداث في مسارها الدرامي نحو الأزمة ثم الانفراج أو التعليق أو الإنشاد ، وفي هذا الحين استقلّ الفن المسرحي بظهور نوع آخر إلى جانب التراجيديا والكوميديا والملحمة ما يسمّى بالمسرحية الغنائية والمصطلح عليه بـ: الأوبرا والأوبيرت .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـــــــــ محمد مندور، الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما، م ن ، ص6.
-النشأة التاريخية للمذهب الكلاسيكي:
بدأت بوادر الاتجاه الكلاسيكي تظهر منذ القرن السادس عشر تقريبا في الفترة 1515م-1610م أي فترة عصر النهضة الأوروبية التي شهدت حركة البعث وتعبر هذه التسمية عن يقظة الآداب والفنون في القرن السادس عشر أين بدأ ينقل النشاط الكلاسيكي من إيطاليا إلى فرنسا وظهر أشهر الأدباء الكلاسيكيّين وشهد المذهب الكلاسيكي أوج ازدهاره في القرن السابع عشر في عهد الملك "لويس الرابع عشر" وهو العصر الذهبي في تاريخ فرنسا، ولا شك أنّ الإيطاليون لا يزالون يعتبرون أنفسهم ورثة الروح الأثيينية في الآداب والفنون والعلوم واستمرار لتلك الروح الأتيكية – روح المقاطعة التي كانت تقع فيها أثينا القديمة - ملهم الإبداع في المذهب الكلاسيكي منبعه هذه المدينة الأسطورة التي خلّفت هذا التراث الضخم من الأدب والفلسفة والثقافة .
وبالرغم من تأصّل جذور الكلاسيكية بإيطاليا في القرن الثالث عشر والرابع عشر، حيث بدأت العصور الوسطى تخفض فيه أشرعتها وينبثق فجر جديد للمعرفة والفن مع ظهور شاعر الكوميديا الإلهية "دانتي أليجيري" والشاعر "بترارك" وبوكاشيو وغيرهما ممن دعوا للبحث والتنقيب في التراث الدرامي وآداب الأقدمين من اليونان واللاتين، أبدعوا في أعمالهم وصوّروا الطبيعة محاكاة خالصة بالقلم والريشة والإزميل واللحن، وأخرجوا للإنسانية روائعهم الخالدة أنشدوا فيها الجمال والصفاء، صوفية الفكر وإدراك عميق بفلسفة الحياة، كما أنتجوا " أدبا ذا خلود، وفكرا عميقا عاش على مرّ العصور، دون أن يذهب بريقه، أو يفتُر الاهتمام به"1 وهو من بعث نفس الإلهام لدى روّاد الكلاسيكية الجديدة.
كان لإيطاليا ــــ مهد الحضارة الرومانية ـــــ الحظ الأوفر في انتقال آداب وفنون وعلوم الإغريق إليها على إثر سقوط القسطنطينية على يد السلطان "محمد الفاتح" سنة 1453م حيث لجأ إليها أبرز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ــــــمحمد حمدي إبراهيم، نظرية الدراما الإغريقية، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط1، 1994، ص 15.
وأشهر علماء اليونان درسوا بجامعاتها واصطحبوا معهم أهم المخطوطات والمؤلّفات منها كتاب الخطابة ، وفن الشعر لأرسطو حيث تمت دراسته من طرف النقاد الايطاليّين دراسة مستفيضة وحلّلوه وترجموه إلى اللاتينية والايطالية "وهو كتاب صغير الحجم يرجع تاريخه إلى ماقبل عام 323 ق.م بيد أنه خطير الأثر على مر العصور، ومع كثرة الدراسات التي صدرت عنه، التي يصعب حصرها، إلا أنه ما زال يلهم الكثيرين بأفكار جديدة بين الحين والآخر، ولا يستطيع باحث في الدراما قديما أو حديثا أن يتجاهله ولو اختلف معه"1 ومع اكتشاف الطباعة يسرت عملية نشر المؤلفات، "ومع الحروب الفرنسية الإيطالية جرى بين القطرين احتكاك حضاري أفضى بالفرنسيّين إلى العودة لدراسة النصوص اليونانية واللاتينية وفهمها على نحو أفضل، وساعد على إنجاز هذه الحركة أمران: الطباعة والإصلاح البروتستانتي، مما شجّع على تطوّر النزعة النقدية بسبب المناقشات الفلسفية والدينية"2 ممّا جعل فرنسا تستفرد بالظهور الرسمي للمذهب الكلاسيكي على يد أبرز أعلامها أمثال كوريني وراسين ومولير في مجال المسرح وبوالو في الشعر الذي يعتبر "ناقد الكلاسيكية الأكبر وما سمّاه بالهجائيات"3 ولافونتين في الحكاية وفي النقد لابروبير والفلسفة نجد كورني وباسكال، وكل من فينيليون وبوسوييه في فن الخطابة، وسان سيمون في التاريخ على سبيل المثال وليس الحصر فالقائمة طويلة من أسماء التقليديّين الكلاسيكيّين، ثم انتشر بعد ذلك في إنجلترا وألمانيا وجميع البلاد الأوروبية والبلاد العربية، وكان صاحب الفضل في هذا الانتشار السريع للاتجاه الكلاسيكي حاكم فرنسا آنذاك قبل انقلاب الحكم الملكي إلى جمهوري الملك "لويس الرابع عشر" عرف برعايته وحبّه للآداب والفنون واهتمامه بمختلف العلوم وتكفّله بميزانيّتها المالية مع تدعيمه للفنانين والنحاتين والمعماريين والممثلين وأنشأ المعاهد والكليّات وأعطى للتعليم الأكاديمي حقّه من الرعاية في مختلف التخصّصات خصوصا الأدب والفــــــــن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ــــــــ محمد حمدي إبراهيم، نظرية الدراما الإغريقية، م ن، ص 9.
2ـــــــ عبد الرزاق الأصفر، المذاهب الأدبية لدى الغرب – مع منشورات ونصوص لأبرز أعلامها، من مشورات اتحاد الكتاب العرب 1999، ص14.
3ـــــــ محمد مندور، الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما، نم، ص12.
بفروعه المختلفة مسرح أوفن تشكيلي أو الفن الأوبيرالي أو فن العمارة .
ومهما يكن من أمر التشريع الفرنسي للمذهب الكلاسيكي فإننا نجد الأقدمين من الكتاب الكلاسيكيّين "يدينون للإيطاليّين بكل شيء. والواقع أن هؤلاء كانوا قد سبقونا مائة سنة تقريبا، وكان المصدر الوحيد لأفكارهم كتاب " الشعر" لأرسطو الذي ترجم إلى اللاتينية سنة 1498 ونشر باليونانية سنة 1503 ـــــــــــــ والسر وراء النهضة الفكرية والفنية بايطاليا الجو الديمقراطي التي كانت تحفل به سياستها الداخلية وموقعها الجغرافي المهم حيث كانت طريقا للتجارة العالمية بين الغرب والشرق ــــــــــــــ وابتداءا من سنة 1527 تتابعت طبعات مؤلفات أرسطو الأصلية بوفرة، وكثر التعليق عليها، واستمر ذلك حتى سنة 1613. وسيطرت ثلاثة أسماء: "فيدا" و"سكالجير" و"كاسلفترو". فهؤلاء مع آخرين غيرهم، هم المعلمون الحقيقيون بالفعل، الذين سمحت دروسهم، بإقامة مذهب كلاسيكي في فرنسا"1 وهو مذهب يقوم على مبدأ تقليد الأقدمين، والتسمية حديثة النشأة لم تظهر إلاّ في القرن التاسع عشر ولو أن وجوده من باب الممارسة كان موجودا من قبل – موغل في التاريخ – لكن دون استعمال كلمة "كلاسيكية"، فأوّل ما ظهر في إيطاليا عام 1818م ثم فرنسا بصفة رسمية ثم شاع في كامل أقطار أوروبا خلال مدة لا تزيد عن عشرين سنة في كل المجالات الدراسية والنقدية ، وكانت مدام دوستيل ــــــــــــ Mme de staél الناقدة الفرنسية الألمانية من الأوائل التي أوضحت سمات هذا المذهب أو المدرسة من خلال كتابها "من ألمانيا-De l’almagne .
وكلمة كلاسيكية مشتقة من ِClasse أو Classis "وأصل معناها وحدة في الأسطول. ومن هذا أصبحت تفيد هذه اللفظة معنى الوحدة الدراسية أي الفصل الدراسي -أو الصف وأيضا الصنف- وهذا المعنى هو الذي أخذته هذه اللفظة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية الحديثتين"2 لصلاحيّته عبر الزمان والمكان في تعليم الشباب وتربيتهم في فصول الدراسة بصفة راقية، واحتفظ باصطلاح أدب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـــــــينظر: فيليب فان تيغيم، المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا، تر:فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، فرنسا، ص39.
2ـــــــ إبراهيم حمادة، من حصاد الدراما والنقد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987، ص229.
كلاسيكي في المدارس والأقسام بالجامعات الأوروبية، ويعني الأدب اليوناني والروماني القديم، أو الأدب الذي يتّصف بقيم الكلاسية الجديدة، أو الأدب الذي اكتسب صفة البقاء والخلود بفضل قيمه السامية. ولا تزال لحد اليوم تدرس الآداب اليونانية القديمة واللاتينية في الجامعات بالقسم الكلاسيكي.
إنّ الكلاسيكية هي التعبير عن الأفكار العالية والعواطف الخالدة بأسلوب فني متقن روعة في النظام والدقة، والابتعاد عن كل ماهو غريزي وبدائي وغير منضبط بقواعد وقوانين، بشكل عام كل عمل عظيم وجميل، خضع للتطوير والتكامل سنين طويلة حتى بلغ غاية الإتقان، وأجمعت العصور على جماليّته، كما أنها نشأت وتطوّرت "مرتبطة بالأنظمة التقليدية والطبقة الأرستقراطية والسلطة الملكية المطلقة، لأن هذه الجهات كانت في أذواقها، تنشد الشيء الأكمل والأجمل، ولذلك كان الفرنسي العظيم فولتير المتوفي عام 1778م يعلن بصراحة انتماءه إلى عصر لويس الرابع عشر(1661-1685) وقد أكّد في مؤلفاته أن الحضارة الأرسطقراطية لابد أن تتبع نوعا من الكلاسيكية بدرجة ما"1.
فالكتاب الكلاسيكيوّن لطالما كان ينظر إليهم من برجهم العاجي لسموّ فكرهم وصفوته وقدرته على الخلود والمثال واضح في الكلاسيكيين القدامى على الصعيدين اليوناني والروماني هوميروس وهزيود وفدياس وصوفوكليس وبروتاغوس وأريتوفانيس وهيروديت وأفلاطون وأرسطو طاليس وديموستين وفرجيل وشيشرون وبلاوتس وتيرانس وسينكا وأوفيد وهواس وعشرات آخرون ممّن خلّدوا بلغتهم الشعرية الراقية وصارت أعمالهم يحتذى بها في سمو الخيال وصفوة التشخيص خاصة في الدراما، ما جعل الاتّباعيّون طبعا يأخذون بنظرية المحاكاة لأرسطو كمصدر لإبداعهم، وهذه النظرية أكثر مواتاة للأدب المسرحي الموضوعــــي منها للأدب الذاتـــي وهي أهم خاصية للمدرسة الكلاسيكية- الموضوعية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـــــــينظر: عبد الرزاق الأصفر، المذاهب الأدبية لدى الغرب، م ن، ص 11.
والعقل حتى في توظيف الخيال، ونجد "من أتباع الكتابة الكلاسية الجديدة، نقدا وإبداعا: كورني وراسين، وموليير، وبوالو في فرنسا، ودرايدن، وبوب، وصمويل جونسون، وجولد سميث في إنجلترا"1.
-خصائص المذهب الكلاسيكي:
1- محاكاة القديم أو تقليد القداماء: إن أهم ما يميّز الاتجاه الكلاسيكي هو محاكاة القديم من الآداب اليونانية والروماني كمنهج أساسي يتبعه المحدثين من الكتاب والنقاد والباحثين الكلاسيكيين لذلك سمّي بالمذهب الاتباعي أو الاتباعية لطبيعة جوهر محتواها النفيس من الفن الرفيع والأزلي "في ضوء التعرف على حقيقة ما كان يعنيه الكتاب القدامى وما كان يعنيه هذا الأدب بالنسبة لمن يتلقونه، والطريقة التي كانت تمضى بها أعمالهم، وكيف نظرتهم إلى عصرهم وماذا كان تأثير ذلك العصر عليهم.. دراسة الأدب من هذه الزاوية ضرورة تحتمها مرحلة التطور الفكري والثقافي التي تفصلنا عن عصر النهضة والعصور التالية له، عندما كان الباحثون ينظرون إلى الأعمال اليونانية القديمة في أغلب الأحيان نظرتهم إلى نماذج يعجبون بها ويحاكونها وينتفعون بها ولكنها أبدا لا تناقش ولا تفهم ..هي في نظرهم وحي إلهام وتنزيل من آلهة الأولمبوس"2 ولا يزال الأمر كذلك فالاتجاه الكلاسيكي وحي إلهام الكثير من الكتاب التقليديّين والشغوفين بإحياء النفس الكلاسيكي في كتاباتهم المسرحية، يأخذون بنظرية المحاكاة لأرسطوا ويؤصّلونها في أعمالهم كمصدر إبداعهم ولا يخرجون عن أصول هذه النظرية إلا للنادر جدا والاضطراري لروح العصر مع الإبقاء على جوهرها كمثلا إخضاع السلوك البشري لقوى خارجة عن ذاتهم والصراع العمودي أو إرادة الآلهة فقد تغير الوقت وفهم الزمان لأسطورة الآلهة وأقدارها المسلطة على إنسان ذلك العصر وسلوكياته "بل ينبع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ــــــــــ إبراهيم حمادة، من حصاد الدراما والنقد، م ن، ص233.
2ــــــــ ممدوح حمدي، الدراما اليونانية، دار المعارف: الهيئة العامة لمكتبة الاسكندرية –القاهرة، د ت، ص 6-7 .
السلوك من ذات الإنسان ومن طبيعته البشرية التي تتكوّن من غرائز وإحساسات وعواطف وانفعالات وأفكار. ولهذا غيرّوا دوافع السلوك القديم بدوافع إنسانية جديدة، فالإنسان في المسرح الكلاسيكي لا يصارع ((الأنانكية)) أي الضرورة الكونية أو إرادة الآلهة بل تتصارع في نفسه العناصر المختلفة للطبيعة البشرية "1 يعني أنّ التغيير ليس جذري لدى أصحاب الاتجاه الكلاسيكي في المسرح الحديث ولكن شكلي فقط على مستوى التشخيص وطبيعة الأحداث والصراع ومسار الحبكة يبقى نفسه على ما نظّرت له النظرية الأرسطية، وكأنهم يستعيرون القالب أو الوعاء من التــــراث المسرحـــي اليونانــي والروماني القديم وحكاياته الممزوجة بروح الفكر الأسطوري، أما المحتوى فهو جديد إنساني محظ وهذه خاصية أخرى من خصائص المذهب الكلاسيكي في الأدب المسرحي أنه إنساني وموضوعي لذلك سمّي بالأدب الإنساني.
2- العقلانية: لا بد أن التجربة المسرحية هي تفاعل واع بين الفكر والشعور الإنساني في تصوير حدث ما أساسه طبعا الحياة والطبيعة والهدف منه الكشف عن حقيقة ما من حقائق الحياة والنفس البشرية ، والدراما تحاكي الأفعال، وهي تختلف من مؤلف لآخر، والعقل سيد التفكير ومنبع الابداع ولو كان العمل خيالي، فالخيال عند الكلاسكيبن ليس وسيلة للهروب من الواقع والتنحّي عن المسؤولية بل وسيلة للإدراك وما يخفى من أسرار الحياة أي يتخيّلون ليكتشفون الحقيقة والعقل هو الحكم وحده في هذا الخيال أي الإفراط فيه بالتهويم في فضاء الوهم ونزواته مرفوض بمعنى استخدام الخيال بما يسمح والحاجة الدرامية للكاتب، ويشترط الإنفعال في هذا الموضع لأنّ العقل المنفعل هو أسمى ملكات الإحساس بحقيقة الشيء وأرقاها في رؤية الأشياء –العقل الموضوعي الحساس والمنطقي السليم "إنّ العقل مرادف للحس السليم تقريبا . وهو الملكية المشتركة بين كل الأشخاص في جميع الأزمنة والبلاد، التي تعتمد في أحكامها على ما هو شامل وبسيط في الطبيعة الإنسانية"2 ويمكننا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـــــــ محمد مندور، الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما، م ن، ص13.
2ـــــــ عبد الرزاق الأصفر، المذاهب الأدبية لدى الغرب، م ن، ص19.
أن نستدل في هذا بمسرحية أوديب لتوفيق الحكيم والتي وصفها النقاد بالسقطة العظمى لأن الحكيم فيها خرج عن نطاق العرف والمنطق في علاقة الابن أوديب بأمه جوكاستا وتنافى مع كل القيم الأخلاقية التي يرفضها العقل لما هو إنساني ونبيل.
3- الوضوح والتعويل على الحقيقة أو ما يشبهها:
إنّ الغموض مرفوض لدى الكتاب الكلاسيكيون لأنه عجز وعدم دراية كافية بأطراف الموضوع حتى في استعمالهم للغة الرمز فهي واضحة المعالم، كل شيء مهضوم بيّن القصد وجلي للجميع لصاحب النص والقارئ له والعامل على النص كالمخرج أو السينوغراف أو الممثل في حالة النص المسرحي، فأكبر سمة في الأدب الكلاسيكي الوضوح وصفاء المعاني وقصديّة الخطاب، ولن يتأتّى هذا إلاّ بلغة سليمة وقوّة سبك الجمل وحسن اختيار الكلمات وبلاغة القول وهذا عكس الاتجاهات الفنية الأخرى التي ظهرت ما بعد الكلاسيكية والتي تبيح الغامض والمشوّه واللامنطق بالاستغراق في الذاتية واللاتشخيص، كالرمزية والعبثية والسريالية إلى آخرها لا يمكن التعبير فيها بلغة سلسة واضحة ومباشرة، وهو حال الكتابة الدرامية عند كتاب دراما اللامعقول "لأنّ كثافة التعبير ووضوح المنهج وعمق الاستقراء هي أعمدة قيمة ومهمة في قضية تحديد المصطلح الأدبي وكشف جوانبه الفنية في مدى ارتباطه بحركة المجتمع وأغوار النفس الإنسانية بصراعاتها العاطفية القوية واستجاباتها المتباينة لأحداث الحياة المرئية وغير المرئية وظواهرها الحزينة والمفرحة، المتفائلة والمتشائمة، المتمرّدة بعنف والهادئة بصمت"1 تلك هي اللغة الدرامية بعفويتها تقدم لنا الجميل الواضح في أسمى صوره من خلال المذهب الكلاسيكي، لأنها تعوّل على الحقيقة أو ما يقاربها بالاقتراب من الواقع ولغته المشخصة والواضحة المعالم، والابتعاد عن كل نزوات الخيال والوهم وهذيان العقل وبرودته، فالحقيقي وحده الجميل والمحبوب والمنتقى وهو الطبيعي الإنساني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ــــــ س.و.داوسن، الدراما والدرامية، تر:جعفر صادق الخليلي، منشورات عويدات –بيروت، باريس، ص8.
4- جزالة التعبير والإتقان الفني:
يحرص المذهب الكلاسيكي على قوة اللغة وفصاحتها وايحاءاتها الدلالية، لغة شعرية راقية حرصا على جزالة التعبير يتجنب فيها النثر، ولو أن المسرح الحديث استغنى عن الشعر إلى لغة النثر واختلفت لهجاتها الكتابية حسب بيئة صاحبها وطبيعة لهجة جمهورها، ومع ذلك فإنّ أنصار الكلاسيكية احتفظوا بالشعر كأداة للتعبير في مسرحياتهم وهم بذلك إنّما يتّبعون النهج اللغوي المتين يحاكون من خلاله روائع الأدب المسرحي الإغريقي والروماني نذكر على سبيل المثال وليس الحصر من الوطن العربي "أحمد شوقي" في مسرحيّاته الشعرية: كليوباترا وعنترة ومجنون ليلى وقمبيز. ومن الواضح أن للشعر التقليدي ــــ الكلاسيكي خصوصيّته "التي تتميّز بالجزالة وإن يكن بعض النقاد في العصر الحديث قد أخذوا ينكرون على الشعر أن تكون لغة خاصة وأن يحضر على ألفاظ اللغة العامة الدخول في الشعر"1.
كما أنّه يشترط لدى الكلاسيكيون عدم الخروج عن الأصول القديمة لا بد على الكاتب أن يتقن فنه ويصقله إلى درجة الكمال فلسفة الرائع والمتميّز، ويستدل على هذا التراجيديا الكلاسيكية التي تقيّدت بنظرية الأجناس والوحدات الثلاث إطارا للإبداع الفني.
ولو كتب شعراء التراجيديا اليونانية حسب أذواق جماهيرهم ومعتقداتهم الذاتية لما وصلوا لذلك الصفاء الفكري في أعمالهم التي خلدت عبر العصور، علما أنهم "كانوا يعلمون أنهم يخاطبون جمهورا يختلف حظه من العمق والثراء في مجال النضج الفكري من فرد لآخر"2 ورفضوا النزول إليهم من برجهم العاجي وحاكوا الحياة كما يرونها هم في قمة الإتقان الفنّي لعمليّة التشخيص الدرامي الخالص من شوائب الذاتية واللاموضوعية وثبات الروح والموهبة الفنية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـــــ محمد مندور، الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما، م ن، ص19
2ـــــــ كمال ممدوح حمدي، الدراما اليونانية، م ن، ص10