المحاضرة الخامسة :الاتجاه الواقعي
تمهيد
استمدّت الواقعية – Le Réalisme جذورها من الرومانسية في ثورة على مبادئها في الجنوح للخيال، واتخاذ الواقع مادة لمواضيعها في شتى المجلات الأدبية والفنية، فكل من الرواية أو الفن التشكيلي أو المسرح وبقية الأنواع الفنية والأدبية ما هي إلا محاكاة لهذا الواقع مهما بلغت درجتها من التمادي في لغة وطرق التعبير الخاصة بكل نوع، وهي في ذلك أي الواقعية تستمد خصائصها من نظرية أفلاطون التي تقول بأن كل مثال في الأعلى له صورته أو شكله الذي يحاكيه في الواقع. فلا وجود لعالم خارجي منفصل عن الإنسان وحقيقته متجسدة في الواقع بكل تخضرماته الفكرية والاجتماعية والدينية عبر العصور فالنفس البشرية لا يكتمل معناها إلا في لحظات الوعي بالواقع مهما كانت امتداداتها في اللاوعي واللاواقع في قول الفيلسوف فيشتيه.
الواقعية خلفية معرفية تاريخية
لاشكّ أنّ الواقعية كمذهب أدبي وفني اصطلاح جديد، لكن دلالته اللغوية موجودة منذ القدم لأنّ محاكاة الواقع والتعبير عنه موجودة في أقدم الآداب والفنون موغلة تاريخيا قبل أن يكون لها أنصار وخصوم، لذلك يعتبر مصطلح الواقعية حديث النشأة لم يكن معروفا بصفة مذهب أو اتجاه أدبي وفني حتى أخذت المدرسة كل معالمها النظرية على أيدي رجال الفكر في أوروبا خلال القرن التاسع عشر عن إيمان بالواقع العلمي وتجاربه وخصائصه وتطبيقاته. وحين ذاع هذا الاصطلاح كان يقصد به المذهب الذي يستقي عناصره من الطبيعة مباشرة لا من النماذج الكلاسيكية أي الموضوعات قريبة من الواقع المعاش حتى يتأتى التصوير الصادق لمظاهر الحياة. وكثيرا من النقاد من وقعوا في التباس بين الواقعية والرومانسية والتداخل في المفهوم خاصة في مجال الأدب حيث أن الأدب الواقعي انحدر من الرومانسية فكثير ما كانت النظريات الرومانسية "توصي بإدخال المحسوس في الفن "1في جميـــــــع الأنواع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-فليب فان تيغيم، المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا، م ن، ص 238.
في الشعر والنثر والأدب المسرحي، وكان على المسرح أن يقدم الحياة الواقعية لا صورتها الشكلية ولم يكن لدى الرومانسيين أي مانع في عرض مناسبات واقعية أو التلميح لأشياء مألوفة في الشعر الغنائي، وربما هذا هو وجه التداخل بين المذهبين نظريا، غير أنه لم يكن ليعترف بالاتجاه الواقعي في النقد والأدب لأنه خاض في التفصيلات المادية وأهمل المثاليات التي اختفت من ورائها شخصية الكاتب المبدع فقد أعطى الأولوية للنص المعالج واقعيا أكثر من صاحب النص، لكن سرعان ما انفصلت الواقعية عن الرومانسية في مذهب مستقل بذاته غايته تصوير الحياة عن طريق الملاحظة والوصف والتحليل الموضوعي بعيدا عن الانفعال والذاتية والانغماس في لغة المشاعر والأحاسيس والخيال الرومانسي لتقديم صورة واضحة للعالم الحقيقي القريب من واقع الفرد في المجتمع "وهكذا نشأ المذهب الواقعي على أسس وطيدة من الإيمان بالعلم وتجاربه وخصائصه وتطبيقاته"1.
وتنوّعت اتجاهات الواقعية من طبيعية ونفسية واشتراكية، كل ووجهة نظر خاصة بروّادها لكن تلتقي في الأخير في مفهوم الفكر الواقعي عموما المهتم بجميع طبقات المجتمع وأصنافه من الطبقة الشعبية الكادحة إلى الطبقة المتوسطة عادة ما تسمى البروليتارية أي العاملة إلى الطبقة البرجوازية والنبيلة والطبقة الحاكمة المهيمنة على شؤون سياسة الأمة واقتصادها، وكان للدراما الواقعية الحظ الأوفر في تمثيل هذه الطبقية بكل مستوياتها لالتصاق المسرح بالشعب وقضاياه وطبيعة الجمهور فيه من مختلف الفئات العمرية والدرجات الثقافية والتي تكون في مجموعها البنية الاجتماعية للواقع، فجميل جدا أن يشاهد الجمهور ما يتناسب وبيئته وما يتعلق بشؤونه بلهجته المحلية، وتجاوبه نفسيا ووجدانيا بما يعرض أمامه على الخشبة، وتلك هي الواقعية إمعان في تصوير الواقع وكأنه حاضر واهتمام بمصير الإنسان والأخذ بيده إلى مستقبل أفضل، مستبطنة مفهوما عقليا عن الأشياء والأحداث ما يتماشى وتطورات النظرية العلمية والتكنولوجية لروح العصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-تليمة عبد المنعم، مقدمة في نظرية الأدب، دار العودة، بيروت، 1979، ص162
أشكال الواقعية وتجلياتها في الدراما
ظهرت الواقعية بعد منتصف القرن التاسع عشر، لم يكن لها تلك الضجة للثورة الرومانسية على أنصار الكلاسيكية، فقد كانت نوعا من الحرب الباردة على أنصار والرومانسية ولم يظهر لها خصوم إلا بعد ظهورها الرسمي بفرنسا أولا ثم انتشارها في جميع أقطار أوروبا. وعرفت الواقعية سبعة أشكال حددت مسارها الفكري في شتى مجالات الأدب والفن خاصة المسرح فيما يسمى بالدراما الواقعية اصطلاحا.
1-الواقعية البدائية أو السكونية: تزامنت مع التغيرات التاريخية والسياسية التي سادت أوروبا منذ عصر النهضة، وحركة التنوير في القرن الثامن عشر، بداية مع "رابليه" عندما صوّر في رواياته المجتمع الإقطاعي ونقد نقدا لاذعا ذهنية القرون الوسطى، وتبعه سرفانتيس في عمله "دون كيشوت" في سعي النفس الانسانية نحو الخير والعدالة ونبذ عادات وتقاليد ذلك الزمن البالية. ثم يأتي فولتير ينشد مبادئ انطلاق الثورة الفرنسية من خلال كتاباته في الدراما ووالرواية والشعر فدعا إلى التسامح الديني ومحاربة أعداء العلم والتقدم والقضاء على النظام الطاغي. ثم تبعه ديدرو في دعوة إلى ديمقراطية الفن وتناول حياة الانسان العادي والقضايا العالقة بواقعه، وفي المقابل نجد المفكر الاجتماعي جان لوك الذي دعا إلى دراسة البيئة المحيطة بالفرد لأن الفنان ابن بيئته، ولا ننسى "شكسبير" الذي تميز بتشخيصه الواقعي وربطه بالتفاعلات الاجتماعية، وأكثر شيء دفع الواقعية نحو الظهور مفكري حركة التنوير في إزالة الغبار عن هذا الواقع والظفور بأنصار في سائر أوروبا نحو واقعية أكثر جدية.
2-الواقعية الطبيعية: كان بلزاك رائد الواقعية الأول ولكن لم يكن المشرع لها، كان يؤمن بأن الأدب حامل قضايا المجتمع، وارتبطت بالواقعية النقدية لأنها جسدت في تصويرها الناقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر والفضل يعود لمبادئ الثورة الفرنسية التي أنضجت أفكارها ورسخت مبادئها، جاء الأدب الواقعي النقدي مرتبطا بالواقعية الطبيعية في بادئ الأمر من خلال أعمال بلزاك الروائية في تصوير موضوعي بعيد عن المثالية "لأن بعض الكتاب يفقدون موضوعيتهم العلمية التي تشكل مبررهم لكتابة مسرحية واقعية بالدرجة الأولى، عموما كثيرون هم الذين أخلوا بالموضوعية الدرامية"1، وهم نهج الكتابة الدرامية عند الطبيعيون أرسى معالمه زعيمهم زولا في مقدمته "تيريزراكان" 1867 لدعم الحركة الطبيعية في المسرح وجعل الدراما توازي تطورات الرواية فيما يسمى اليوم بمسرحة الرواية، وتبعه في ذلك بلزاك برؤية فلسفية أكثر ابتكارا حيث كتب بقلم الكاتب الطبيعي العلمي عن المجتمع الفرنسي وكشف خبايا النظام الرأسمالي بما أسماه في فلسفته الأدبية بالحقيقي في الطبيعة والحقيقي الأدبي واستطاع أن يخلق نماذج حية في الحقيقي الأدبي حتى لا يصدم القارىء بالحقيقي الشرس الموجود في الطبيعة فبقدر ما كان اتجاهه طبيعيا فقد كان أخلاقيا بالدرجة الأولى.
3-الواقعية النقدية: بدأت ببصمة بلزاك الطبيعية نزعة زولا المذهبية ولم تعثر على اسمها ومذهبها إلا مع شان فلوري وفلوبير الذي تعود كتاباته الأولى إلى 1843 برفض تام لجميع أشكال الكتابة المعاصرة للأدب الخيالي قاصدا بذلك الأدب الرومانسي، لتكتسب الواقعية معه خصوصيتها دون تجردها من الطبيعة مع فارق بسيط، فقد انطلق "شان فلوري" من الحقيقي الطبيعي لا الحقيقي الأدبي، ليضع مبادئ الواقعية النقدية وبهذا فهو يجبر الروائي أن يكون شجاعا في تصوير سلبيات المجتمع دون أن تخيفه ما دام يصور الواقع تصويرا حيا ناقدا عكس بلزاك. أما فلوبير تتضمن نظرته الواقعية في كون الفن قريب من العلم وعليه لا يجب أن يقع الفنان في تشابك مع الحياة الاجتماعية يصور بكل دقة وموضوعية وأن يكون عادلا في تصويره قدر الإمكان ويتوخى في ذلك الحذر والانعزال عما يشوب هذه الواقعية الخارجية من أن تمجد أي قضية سياسية أو اجتماعية أو دينية في الأدب الواقعي النقدي.وتجدر الملاحظة هنا أن الواقعية النقدية كانت شعبية في اختيار نماذجها لقربها من الطبيعة والواقع الحي وقد مثل هذا الاتجاه كل من بلزاك وفلوري وفلوبير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ج.ل.ستيان، الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، تر: محمد جمول، الهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، 1995، ص16
4-الواقعية الاشتراكية: ويمثلها كل من ماركس وانجلز ولينين وستالين وغوركي، وهي نتيجة حتمية في تطور مسار المذهب الواقعي بتسلسل منطقي لأفكاره عبر الواقعية البدائية والطبيعية والنقدية، مع إضافة جوهرية وهي فكرة التغيير واقتراح سبل الإصلاح التي جاءت بها النظرية الاشتراكية المعادية للنظام الطبقي، فقد أكملت ما غفلت عنه الواقعية النقدية في تصويرها اللاذع والناقد للمجتمعات وكشف المستور عنه في أنظمتها، فالواقعيون الاشتراكيون مع إيمانهم بأفكار بلزاك إلا أنهم يسعون إلى إحلال الفردية الاشتراكية التي تلاحمت في عمل جماعي من أولئك البروليتاريون من الطبقة البسيطة والكادحة غايته التقدم الإيجابي أي تجاوز التصوير الواعي الوصفي لأوجه الشر والفساد الاجتماعي إلى حمل مشروع بنائي في لهجة ثورية للتغيير الايديولوجي في الواقع في فلسفة الواقعي الحقيقي والمتطور عن مفهوم الواقعي الطبيعي والحقيقي الأدبي بوجهة نظر اشتراكية وهي "إقحام الكاتب في المثال الاشتراكي الذي أحبه وسعى إلى تقدمه ورفعته" بالتغير الإيديولوجي وتربية العمال تربية اشتراكية تصويرا صادقا للواقع والطبيعة في تطوّرهما الثوري، وقد مثل غوركي دراما الواقعية الاشتراكية أحسن تمثيل وتبعه في ذلك برتولد بريشت في مسرحه الملحمي.
5-الواقعية التاريخية: أخذت معالمها في الدراما بظهور فن الإخراج بألمانيا على يد دوق المقاطعة ساكس مايننجن "جورج الثاني 1826-1914" ليقدم أول مسرح في أوروبا يسمى مسرح الواقعية التاريخية الذي طوره في مسرح آل مايننجن، وتبعه قي ذلك الكثير من المخرجين الأوروبين2 منهم المخرج الفرنسي ذو النزعة الطبيعية "اندريه أنطوان" في المسرح الحر بباريس (1858-1943) متجاوزا فيما بعد الصدق التاريخي الخارجي إلى صدق طبيعي غير مبالغ فيه أكثر موائمة مع الحقيقـــــــة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فايز ترحيني، الدراما ومذاهب الأدب، م ن، ص205
2-سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، عالم المعرفة - سلسلة كتب ثقافية يصدره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1979، ص 34-45.
في الطبيعة والواقع، ممهّدا الطريق لأعمال طبيعية في صفة مسارح حرة لكل من إبسن وستريندبيرج وجوجول وتولستوي وبراهم وهاوبتمان وغيرهم من المخرجين الطبيعيين في أوروبا خاصة فرنسا وألمانيا وروسيا.
وما أعيب في الدراما الواقعية التاريخية أن أصحابها آل ميننجن لم يراعوا الصدق الطبيعي للكوائن الإنسانية التي تتحرك داخل الأزياء والديكور التي تحققت داخله الواقعية التاريخية بتأريخية الأحداث والتشخيص من الناحية الشكلية جملة وتفصيلا. لذلك نجد كل من أندري أنطوان وغيره قد تنبهوا لذلك ونزعوا نحو البيئة الطبيعية التي تتحرك فيها هذه الشخصيات مستعينين بذلك بالفنانين التشكليين تماما مثل ما فعل المخرج الألماني في مسرحه الحر بألمانيا -وكان قد عمل مع أنطوان واستفاد من تقنياته في الإخراج الطبيعي- استعان باثنان من كبار التشكليين في تلك الفترة المزدهرة من تاريخ المذهب الواقعي هما كارل هاشمان وإيميل ليسينج لإضفاء الإحساس الداخلي لروح النص الذي يجري عرضه في حدود الطبيعي الحقيقي البعيد عن التكلف والاصطناع الذي تميزت به الواقعية التاريخية، لكن هذا لا يعني تجاوزا لأخلاقياتها بل مزجها بالمألوف والطبيعي القريب من حياة المتلقي، وقد مثلوا مرحلة الانتقالية من الواقعية التاريخية إلى الواقعية الطبيعة بالوردة الحقيقية إلى الوردة المصنوعة ولو أن في ذلك اصطناع لحقيقة الظاهرة في الواقع، ويكفي أن جهود الدوق جورج الثاني المخرج "قد ألهمت صفّا من رواد الإخراج المعاصر بعده، من أمثال أندريه أنطوان في فرنسا، وقسطنطين ستنسلافسكي في روسيا، وغيرهم ممن سنعرض لسيرتهم فيما بعد، كما جسدت هذه الجهود حقيقة الحاجة إلى مخرج مسؤول مسؤولية كاملة عن العرض المسرحي، كمرحلة منفصلة تمام الانفصال عن مرحلة إبداع النص الأدبي"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، م ن، ص 34.
6-الواقعية النفسية: ومثلها في المسرح المخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي أحسن تمثيل جعل من تشيكوف يتبناها في أعماله منهجا مؤصلا لواقعيته السوسيولوجية ويزخر مسرح موسكو بروائعهما الإخراجية ليومنا هذا. ونظرية هذا الشكل من الدراما الواقعية لا يمكن أن تكتسب طبيعيتها على المسرح إلا عبر استحضار الجانب النفسي فيما يسمّيه ستانسلافسكي الذاكرة الانفعالية وتقنية لو السحرية من خلال كتابيه: إعداد الممثل في التجسيد الإبداعي وحياتي في الفن، لمحاكاة صادقة على خشبة المسرح وعليه فإن الآداء التمثيلي عنده"علامة تصديقية، لما يمتاز به من وجود واقعي،لا نسبة للمؤوّل، حيث يقدم له حدثا متعلقا بعالمه الواقعي، من أعماله "الأرواح الميتة" لغوغول و"سلطان الظلام" التي عرضها بمسرح موسكو عام1902 و"النورس" لتشيكووف هذه الأخيرة التي عدها النقاد تجربة فريدة من نوعها لتأسيس مدرسة ستانسلافسكي فقد عمل عليها مايعادل اثنان وستين بروفة لإنجاحها بعد فشل عرضها الأول وأظهر عبقرية تشيكوف فيها حتى نقادها وجمهورها في ذلك الوقت حير تفكيرهم في مرجعية المسرحية تشيكوف أم ستانسلافسيكي.
ويبدو أنّ ستانسلافسكي وتشيكوف على عكس إبسن، كل منهما تشبعا بفلسفة زولا في حين رفض إبسن مقارنته بزولا وأساسه النظري للدراما الطبيعية. والتي سعى من خلالها لتأصيلها فكريا على مستوى الممارسة في أعماله المسرحية بالرغم من ميله لأدب الرواية، وحرص في نقده الدرامي على أهمية رسم الشخصيات كأفضل وسيلة لضمان واقعية المسرحية ونقلها من البرج العاجي للكلاسيكيين والخيال االمفرط للرومانسيين إلى الوسط الوسط العادي والناس في حالتهم الطبيعية في دراسة مقارنة بين الدراما الرومانسية والكلاسيكية وفضل الأخيرة في جدية تشخيصها لكن بصفة طبيعية وليس كلاسية - أي صفة الكمال - مستشهدا بشخصيات راسين وكورني وموليير "فوجــــد أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-أحمد شرجي، سيميولوجيا الممثل-الممثل بوصفه علامة وحامل للعلامات، دار ومكتبة عدنان للنشر والتوزيع، سوريا، دمشق، ط1/2013، ص149
الأبطال عند من جاء بعدهم في القرن التاسع عشر كانوا مجرد رموز للواجب والوطنية والخرافة والحب الأمومي، لذلك فإن على الدراما الطبيعية أن تعود إلى تحليل الشخصية المأخوذة، في هذه الحالة من الناس العديين في وسطهم الطبيعي. وعلى المسرحية ان تدرس التأثيرات الفيزيولوجية والاجتماعية التي جعلتها على ما هي عليه"1 وبالفعل هذا ما سعي ستانسلافسكي لتحقيقه في منهجه العملي للممثل حيث اهتم بالفعل الباطني/النفسي والخارجي/الفيزيكي وبكيفية تطويرهما نحو الواقعي/الاجتماعي للوصول إلى مصداقية الآداء في قراءة تفكيكية لوحدات التقلبات النفسية على مستوى الشخصية الحقيقية وإسقاطها على الدور في معايشة صادقة للشخصية المسرحية المطلوب تجسيدها واقعيا.
7- الواقعية الاجتماعية: مثلت أعمال أنطوان تشيكوف (1860-1904) هذه المرحلة والتي تعتبر نقلة نوعية في الأدب المسرحي الواقعي، لم يكن ليعطى لها الأهمية القصوي حتى بعد وفاة تشيكوف أين انتبه أنصار النقد الواقعي وأنصار الطبيعية لقيمة رصيده المسرحي فتوجهت أنظار المخرجين الواقعيين إلى مسرحياته وأخرج العديد منها ببصمة الدراما الواقعية الاجتماعية، وكان مسرح موسكو يشهد قمة نشاطه فقدم روائع تشيكوف المسرحية منها "الخال فانيا 1899 والأخوات الثلاث1901 وبستان الكرز1904". كان تشيكوف على غرار الكتاب الطبيعيين يسعى إلى موضوعية فريدة في طبيعيته بأعمال واقعية بعيدة عن الزيف والتكلف، لهذا رفض واقعية النرويجي ابسن واصفا إياها بالمملة لكثرة التفاصيل فيها التي باتت مثقلة بالتكلف والتمثيل اللاحقيقي الزائف، وكان هذا الحكم من خلال حضوره عرض "البطة البرية" عام 1901 وعرض مسرحية "الأشباح" عام 1904 في مسرح الفن بموسكو وهي سنة التي توفي فيها، وكذا عرض"هيدا غابلر" عام 1900 في مشهد انتحار "هيدا" الذي ظهر له خارج عن الطبيعة وكان وقتها حاضرا مع ستانسلافسكي ليعلن له بصريح العبارة أن إبسن ليس مؤلف واقعي أي لا يمت للواقعية بصلة من جانب غيرته على ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ج.ل.ستيان، الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق ، م ن، ص22
المذهب الواقعي في تلك الحقبة، ونفس الموقف بالنسبة لسترندبيرغ، وهذا بكل بساطة لأن تشيكوف وقتها كان قد تعلم كيف يكتب مشهدا موضوعيا يتطلب لجهد عادي من التمثيل، وهي الزلة التي وقع فيها ابسن وحاول إصلاحها من خلال التدرب على أعمال تشيكوف بعد وفاته وطور نفسه بدرجة كبيرة فكانت واقعية تشيكوف بمثابة مدرسة يتعلم منها.
وعن ستانسلافسكي فقد كانت مسرحيات تشيكوف متناسبة جدا منع منهجه النفسي المؤصل في الدراما الواقعية حيث"تعتبر طريقة تشيكوف في بناء الشخصيات مناسبة جدا للممثلين الذين استوعبوا مهارات نظام ستانسلافسكي إن تشيكوف لا يهمل أيا من ممثليه"1 ويثمن كل الأدوار بحيث لا وجود لدور ثانوي عنده ودور رئيسي يحظى بالاهتمام الممثلين عنده كل على السواء يسعى من خلالهم إلى أفق التمثيل الحقيقي الصادق في اجتماعية الممثلين عبر تكنيك الآداء الجماعي بتبادل الأدوار وفرض خلفية موحية بمضمون واقعي حي بعيدا عن لغة الرمزيين الغامضة والتشخيص الغارق في الخيال لدى الرومانسيين وتمثيل طبيعي خال من الزيف الاجتماعي، وقد وصف مايرهولد دراما تشيكوف بالعظمة قائلا عنها أن إيقاعتها الفريدة صممتها غنائية صوفية لتغذي وتمتع خيال جمهورها فقد كان مثله الأعلى في الطبيعة التي أعطاها لمستها الواقعية الاجتماعية في كل أعماله المسرحية، وكذا إعجاب نمروفتش دانشنكو بمسرح تشيكوف لعب دورا كبيرا في مسيرة مسرح الفن لموسكو بعد تشيكوف مخصصا له جائزة سنوية تمنح لأحسن نص مسرحي بلقب تشيكوف2.
ويتردّد اسم آخر في الاتجاه الواقعي للدراما الاجتماعية يتمثل في الكاتب والمخرج المسرحي"برنارد شو" بأعمال متنوّعة فرضت بصمتها الواقعية منها: "مهنة السيدة وارن" و"بيوت الأرامل" و"السلاح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ينظر:ج.ل.ستيان، الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، م ن ،ص 117
2- ينظر: سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، ص51.
والانسان"1849 و"كانديدا"1895 و"لا يمكنك أن تعرف"1899، واعتبرت شخصية وارن أنموذج فذ للدراما الاجتماعية التي دافع عنه شو بكل قواه الفكرية لواقعيته المذهبية، وقد عرف في تاريخ الدراما الانجليزية برفع مستوى الدراما الجاد في لندن إلى مكانة لم يعرفها لمدة قرن من الزمن. أصول الدراما الواقعية
يعتبر هنريك إبسن رائد الدراما الواقعية لما أحدثه من تغيير على أسلوب الكتابة الدرامية ولمسات حية على الإخراج المسرحي تنم عن واقع نابض بالحياة، منطلقا في إبداعه المسرحي بالكلمة –النص كمنطلق أساسي في الفعل المسرحي ليخلق من الواقع الراهن والممكن مواضيع جادّة لها علاقة بالمجتمع، باحثا باستمرار عن كوامن الحياة والنفس والفكر، وعما هو جديد وواقعي في الفن المسرحي، معتمدا منطق الحقيقة الاجتماعية في أشد تجلياتها صراحة وجرأة، رافضا كل ما هو خارج عن المألوف والعادة في محاكاة الواقع ممّا هو غرائبي وأسطوري وحلمي في شكله، إلى ما هو واقعي في جوهره وفي شكل الدراما التي يقدمها، وينفذ من خلالها بقوّة وحدّة إلى أعماق الحياة والفكر والنفس البشرية، لذلك استحق لقب رائد المسرح الواقعي الحديث بكل جدارة.
ونخلص مما سبق ذكره إلى أهم الرواد والأعلام في المسرح الواقعي والذين بصموا بأعمالهم المسرحية لمستهم في هذا الاتجاه الفني المستحدث كتابة وإخراجا هم: فولتير وديدرو وغوركي والدوق ميننجن وابسن وستان سلافسكي وستندبيرج وتشيكوف وشو وغيرهم.
أثر الاتجاه الواقعي في المسرح المغاربي
سيطر الاتجاه الواقعي على المسرح المغاربي سيطرة تامة وشمل مساحة كبيرة من أعماله على مستوى النص والإخراج معا، فمعظم الكتاب والمخرجين المسرحيين تميزوا بنزعة واقعية محظة وهذا واضح من خلال إنتاجاتهم المسرحية، وربما هذا الميول نحو الواقعية راجع للتركيبة الاجتماعية للمسرحيين المغاربة وتوجهاتهم الإيديولوجية بسبب ما عاشوه من محن الاستعمار وبعدها سياسة التمويه والبيروقرطية للحكام الانتهازيون باسم الثورة الاشتراكية، لذلك التقلبات السياسية التي عرفت في مرحلة التعددية الحزبية وما تلاها من أعمال العنف والارهاب في العشرية السوداء والثورات الاهلية كما حصل في لبييا وتقريبا في تونس بخلع الرئيس بورقيبة وثورة الشعب ضد نظامه والحراك بالجزائر، تقريبا نفس الظروف السياسية والاجتماعية عانى منها المسرح المغاربي لتكون سببا كافيا في انتهاجه النهج الواقعي للتعبير عن قضايا مجتمعه سواء في الجزائر أو ليبيا أو تونس أو المغرب أو موريطانيا.
كما اهتم المسرحيون المغاربة بإخراج أعمال الرواد العالميين للمسرح الواقعي بكل اتجاهاته المدرسية الطبيعية والتاريخية والاشتراكية/الملحمية والنفسية والاجتماعية، وذلك عن طريق عملية الاقتباس والجزأرة المسرحية والترجمة.