المحاضرة السادسة: الاتجاه الرمزي في المسرح المغاربي
تمهيد (أصول نشأة المذهب الرمزي)
لم ينشأ المذهب الرمزي دفعة واحدة بل في مراحل زمنية متتالية أسّست لأفكارها ومبادئها التي كونّت النظرية الجمالية لهذا الاتجاه الأدبي والفني في لغة الرمز. ولم يظهر مصطلح الرمزية إلا في أواخر القرن التاسع عشر ثورة على المذاهب السابقة الرومانسية والبرناسية Le Parnassisme والواقعية، وبالضبط في 1885 على لسان الشاعر الفرنسي ستيفان ميلارميه (1848-1898) وأيضا "جان موريس" رائد الشعر الرمزي في مقالة كتبها ردّا على هجومه الذين وصفوهم بالانحلال والانحدار في شعرهم فلم يكن لا كلاسيكيا ولا رومانسيا ولا برناسيا ولا واقعيا بل فسوقا ومجونا ومخدرات لترسيخ معتقداتهم الوجودية "إن الشعراء الذين يسمون بالمنحلين إنما يسعون للمفهوم الصافي والرمز الأبدي في فنهم قبل أي شيء آخر"1 والمنحلّين هم الشعراء الذين خرجوا عن طوع المدرسة الواقعيّة والطبيعيّة وشكلّوا اتجاها فنيا خاصا بهم في لغة الرمز مختلفة عن تلك المعروفة في العصور السابقة.
وقد ظهرت الحركة الرمزية بشكل رسمي بعد نشر بيانها من طرف مورياس في صحيفة فيجارو 1842 الفرنسية كتعبير نقدي فني للممارسة الشعرية أوّلا ثم سائر الفنون البصرية كالفنون التشكيلية والسمعية كالموسيقى الرمزية التي كان مؤسّسها "رنيه غيل" مستوحاة عن رمزية مورياس2، والسمعية البصرية كالمسرح والسينما.
وعلى هذا الأساس ظهرت المدرسة الرمزية متأثرة بنظرية الفن للفن التي ذاع صيتها مع حلول عام 1848 بفرنسا والنظرية المثالية الذاتية، فاختار أصحاب هذا الاتجاه تسمية أنفسهم بالرمزيّين في ثورة فكرية عارمة لأنصار المدرسة الواقعية والطبيعية، حتى وإن عرف توظيف الرمز في الآداب والفنون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ينظر:عبد الرزاق الأصفر، المذاهب الأدبية لدى الغرب، نم ، ص 114
2- ينظر: فان تيغيم، المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا، م ن، ص 283
القديمة لليونان والرومان وحضارات الشرق القديم، لكن لم يكن إلا مظهرا من مظاهر اللغة وتوظيفه تلقائي فطري في الإبداعي الفني الأدبي وليس قصدي كما هو الحال عند الرمزيين والذين استعملوه وسيلة قصدية لإبراز مذهبهم لاختراق حجب الغيب والنفاذ إلى عوالم لا تتوصل إليها الحواس للتعبير عما يستحيل التعبير عنه والكشف عن أسرار الوجود، فالرمز هنا ذو وظيفة روحية تتصل بعوالم داخلية خفيّة في حقيقة الوجود وليس أسلوبا فنيا مجازيا يستعمل في الإبداعات الأدبية كالكناية والتشبيه والاستعارة والمحسنات البديعية، وقد ارتبط بأسماء لامعة من الشعراء الفرنسيين مثل بودلير(1821-1867) وفيرلان(1844-1896) ورامبو(1854-1891) وفاليري(1871-1945) وهم رواد المدرسة الرمزية بدون منازع.
فالرمز وظيفته ميتافيزيقية بحتة وهو سمة الرمزيين حالة ميزاجية بأوسع أشكالها للهلوسة وما وراء الواقع والغيبي والغامض واللاوقعي والهيستيري في تشكيلاتهم الفنية وإبداعاتهم الشعرية بما في ذلك الأدب المسرحي أو ما أطلق عليه اصطلاحا المسرح الرمزي. حيث يترك العنان للرمز اللفظي الذي يعمل "على إثارة مشاعر وأفكار أعظم من تلك التي تعنيها الألفاظ في الحالة العادية، لتوحي بمعان أبعد من دلالتها الملموسة المباشرة، وبتحديد أكثر يتحوّل الرمز اللفظي إلى أداة شعرية متقنة لإعطاء الفكرة شكلا حسيا"1.
الدراما الرمزية خصائصها وأبرز روّادها:
يعتبر "مالارميه" مؤسس المسرح الرمزي، وقد قدم لنا أنموذجا تنظيريا لمفهوم الدراما الرمزية من خلال قصيدته المطوّلة "الهيروديادا" والتي أرسى من خلالها قواعد المسرح الرمزي بصفة مفصلة من حيث طبيعة اللغة وطبيعة الحركة وطبيعة التشخيص الدرامي فيه وطبيعة سينوغرافيا العرض لهذا النوع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ج.ل. ستيان، الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، م ن، ص208
من الأداء التمثيلي ووصفها بأنها دراما طقسية لأن الحركة فيها تختلف عن تلك الموجودة في المسرح التقليدي فهي تعج بمعاني ومشاعر العالم الصوفي وظاهرة استحضار الأرواح-التي كانت سائدة في فرنسا - وغالبا ما تعتمد الرقص والموسيقى وفن البانتوميم وكثيرا ما تحول إلى البدائية في المسرح كما وصفها "هاسكيل بلوك" تمثل تحوّلا شاملا في عالم الدراما وتمثل عودة حقيقية لعناصر المسرح في أبسط وأنقى صورة في محاكاة أعماق النفس البشريّة، وهنا يكمن المشهد الجمالي للدراما الرمزيّة.
وعن اللغة "لقد تصوّر مالارميه لغة مسرحية جديدة تتحرّر من قواعد تركيب الجمل المعروفة وتمتزج فيها الصورة بالحركة امتزاجا يعبّر تعبيرا رمزيا عن الحياة الداخلية والنفسية في إطار مسرحي شعري، وهذه اللغة الجديدة لن تكون واضحة أو مفهومة بالمعنى التقليدي، فهي لن تنقل أفكارا أو تقرّر معاني ولن تخاطب العقل، بل ستخاطب الخيال، وستكون مهمّتها تجسيد الأحلام والخيالات-بل والصمت أيضا-تجسيدا شعوريا. وستتمكن من خلق جو من الغموض وكأن العالم كهف تكتنفه الأسرار"1 تماما مثل اللغة الهيروغليفية في حضارة الفراعنة والتي يصعب فك طلاسمها لكثرة أسرارها فيما وراء المعتقدات الفرعونية.
وبهذا التصور الذي قدّمه ملارميه يمكن تلخيص أهم ماجاءت به نظريته من تعليمات نحصرها في جملة من الخصائص للكتابة الدرامية في المسرح الرمزي:
1-توظيف الرمز فهو المعادل الموضوعي في الدراما الرمزية وعن طريقه يمكن الكشف عن العالم الروحي الحقيقي البعيد عن محاكاة الطبيعة والواقع بل ماوراءهما فقط ينجلي جمال العلوي النوراني "فالعالم المحسوس ماهو إذن إلا غابة من الرموز في وصف بودلير وكل شيء فيه له معنى رمزي يربطه بعالم الروح" 2 وفي هذا تقتــــــرب النظرية الرمزية من النظرية المثالية الأفلاطـــــونية، وعليه يرفـــــض الرمزيّـــون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ينظر: نهاد صليحة، المدارس المسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994، دط، ص24ـــــــ 25
2-م ن، ص 19-20
محاكاة الواقع الضيق والمحدود للدخول في فلسفة اللامحدود واللامعقول في الإيحاء الدرامي المتمثل في عالم الأطياف والاندياح والاتعاشات الرجراجة والحالات النفسية الغائمة أو الضبابية والمشاعر المرهفة الواسعة، والتغلغل إلى خفايا النفس وأسرارها ودقائقها ولويناتها"1 وتركيباتها اللاشعورية. فالتصوير الرمزي يختلف عن التصوير التقليدي في الدراما الطبيعية ويلتمس نوعا من الغموض والبعد الخيالي عن المألوف في الواقع.
2- الابتعاد عن العقل واللجوء إلى الخيال: للخيال مفهوم خاص عند الرمزيين فالمقصود به هو تلك الملكة الخارقة للعادة كما وصفه بودلير التي خلقت التشبيه والاستعارة والتي بموجبها خلق قيمة رمزية تميز العمل الدرامي وتستنبط قوانين أزلية تنبع من أعماق الروح. فالخيال إذن هو القدرة على استنباط المعاني الرمزية الابتعاد عن الكامنة في الظواهر الحسيّة حيث أن الطبيعة المحسوسة هي تجسيد رمزي للحياة الروحية، وعلى هذا الأساس يستبعد العقل القائم على المنطق والواقع في تحليل الأمور وتفسيرها، لكن هذا لا يعني أن الشعراء الرمزيون بدون عقل لأن الخيال أصلا ملكة من ملكات العقل فقط توظيفه لا يجنح للمنطق والعلم بقدر ما يجنح للمعتقد الذاتي والروحي اللامعقول وهو في نظرهم المعقول والجائز في تحليل أفكارهم.
3-الإيمان بوحدة وعضوية العمل الفني/ الدرامي واستقلاليّته،لأنه قبل كل شيء تركيبة معقدة من الرموز تعبر عن حقيقة روحية فريدة، التي من خلالها تسنبط القيمة الأخلاقية للعمل حتى ولوكانت المادة التي صيغ منها قبيحة أو لا أخلاقية.
4-الغموض: ونعني به مجافاة الأسلوب القائم على الوضوح والدقة والمنطق والتفكير المجرد والمعالجات الخطابية والمباشرة كما هو الحال في الدراما التقليدية والشروح والتفصيلات، واستحضار لغة الرمز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-عبد الرزاق الأصفر، المذاهب الأدبية لدى الغرب، م ن، ص114
المبهمة والهائمة في العوالم الخفية لأن الفن وليد الادراكات الروحية العليا لما وراء الحقيقة المادية لهذا الوجود، ولا يمكن التعبير عنه إلا من خلال التناول الشعري، وأن كل من النثر ولغة التواصل العادية تفسد مهمة الرمز الجمالية ووظيفته الميتافيزيقية في الموضوعات الدرامية.
5- الاتصال بالروحانيات وممارسة الجنون والهلوسة في الإبداع الدرامي: ويؤكد هذا بودلر في قوله "لقد عملت جاهدا على تنمية جنوني وكم كنت أحس بالرعب"1 فإحساسه بالرعب لأنه كان واع بما يفعله، كما أكد تأثره بالعالم الروحاني السويدي إيمانويل سويدنبورج، وتبعه في ذلك "ريمبو" متأثرا بفلسفة الرمزيين وأصبح واحدا منهم حيث يقول أن الشاعر الحقيقي هو من يمتلك بصيرة نافذة تخترق العقل الباطن والنفس الداخلية لاكتشاف حقائق لا يمكن للفنان العادي الوصول إليها.
6-توظيف الموسيقى الشعرية: تعتني المدرسة الرمزية كثيرا بالموسيقى وتجعلها في مرتبة واحدة مع الشعر وربما تسبقها، لغة شعرية بتمثل موسيقي، ذلك لأن الأصوات هي في الواقع آلات موسيقية قبل أن تكون أي شيء آخر، بالحروف الصوتية والساكنة، وقد سعى "رينيه غيل" لخلق ما يسمى بــــ: "موسيقية الفعل" أداة تعبيرية تضاف إلى القدرة اللغوية والتصويرية بما تحدثه من إيحاء بالجو النفسي العام، وبالتالي توظيفها لا يكون تجميلا مشهديا لاستقطاب الجمهور بقدر ما ينم عن وحدة عضوية الفن وهنا في هذا السياق وحدة عضوية العمل الدرامي، وبالتالي تعيد الموسيقى الرمزية قيمة اللغة الصوتية إلى مكانها حسب وجهة نظر الموسيقي الرهباني "غيل" لهذا يقول أن الموسيقى الآلية هي أكثر الفنون جدارة بتفسير هذا التحول الخالد للانفعال، وعلى الشعر أن يقلدها. ما تسميه نهاد صليحة موسيقا اللفظة والقصيدةوتقصد الاستفادة من الطاقات الصوتية الكامنة في الحروف والكلمات مفردة ومركبة ومن التناغم الصوتي العام في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-المذاهب الأدبية لدى الغرب، م ن، ص114
2-ينظر:المذاهب الأدبية الكبرى بفرنسا،م ن، ص286
مقاطع القصيدة الذي يضفي بسحرية التلقي على شاكلة التنويم المغناطيسي وليس بغريب توظيف هذه التقنية عن أصحاب المدرسة الرمزية. وبلغت الموسيقى الرمزية ذروتها من التمرد "على الأطر الموسيقية في الأوزان والقوافي وتكوين المقطع والقصيدة ولم يحفلوا بالقواعد الكلاسيكية والرومانسية والبرناسية، وراحوا يبدعون موسيقاهم الشعرية الخاصة بكل منهم بل بكل قصيدة على حدة، وكان رامبو أجررأهم في ذلك، ووصل بهم الأمر إلى الاستهانة بالقوافي وإلى تبني اللغة الشعرية النثرية المموسقة داخليا، وقرروا أنها خير من ذلك النثر الموزون المقفى وتجلى هذا النثر الشعر عند بودلير وفي (قصائد نثرية صغيرة) ورامبو في (إشراقات) أوغل في هذا المجال وحرض عليه الشاعر الرمزي غوستاف كاهن لأنهم وببساطة كانوا مع نظرية الفن للفن ويؤمنون بالحرية في الفن ووجدوا ضالتهم في الموسيقى فصارت شعارا في مذهبهم في قول بول فيرلين مزيدا من الموسيقى والموسيقى قبل كل شيء.."1 الموسيقى الكامنة في الكلمات فقد حاول "أن يجرّد الكلمات من مضمونها ودلالتها الحسية حتى لتكاد الكلمات تتبخر وتصبح أصواتا تذوب في لحن أساسي"2، فالموسيقى طبعت الدراما الرمزية بانصهار اللفظ في النغمة الموسيقية.وبهذا التجاوز لأنصار المذهب الرمزي لكل القيود الشعرية التقليدية فتحوا الطريق فما بعد لثورات فنية شملت حركات فنية وأدبية عديدة كالمستقبلية والباتافيزيقية والسريالية والدادية إلى غيرها، وكلها كان لها مكان في مجال الفن الدرامي.
7- اللغة:لغة رمزية محظة تعتمد على المفارقة والتقابل والتضاد والصور والاستعارات الغريبة وتداعي الأصوات لتحقق اللامألوف واللاعادي، بعيدة عن قواعد ومنطق اللغة التقليدية حتى يتمكن الفنان من تجسيد رؤاه الخاصة على المسرح نستطيع أن نتمثلها بلغة الدراما الطقسية لأنطونين آرتوا في مسرح القسوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-المذاهب الأدبية لدى الغرب، م ن، ص117
2-المدارس المسرجية، م ن، ص 23-24
نماذج من الدراما الرمزية - مسرحية "العميان" لصاحبها موريس ميترلنك
تبلور المسرح الرمزي أوّلا بفرنسا على يد رائده ملارميه ثم انتشر في سائر دول أوروبا على أيدي كل من "موريس ميترلنك " الكاتب البلجيكي الأصل والكاتب هنريك إبسن قبل أن يتحوّل بمساره الدرامي إلى الواقعية الجديدة وكل من الشاعرين الإرلنديين وليام بيتلر وييتس وسينج والنرويجي سترندبرج. وتوحّدت رؤاهم في نقطتين أساسيتين الأولى تتمثل في الاعتقاد بأن العالم المحسوس ما هو إلا ستار يحجب الغيب ويجب اختراقه وعادة ما يترجم هذا الاعتقاد دراميا عن طريق إلغاء المستوى الواقعي للحدث الدرامي ويقترب من القصيدة الشعرية لأنه لا لغة النثر ولا اللغة العادية للحياة الطبيعية تستطيع أن تعبر عنه، والنقطة الثانية متعلقة بتداخل عالم الروح وعالم المادة في كل أكبر يشمل كل شيء، والترجمة الدرامية لهذه الفكرة تتخذ صورة الحفاظ على المستوى اللواقع في إعطائه بعدا روحيا عن طريق لغة الرمز فهي الوحيدة القادرة على تشكيل معنى أبعد وأعمق وأكثر دواما للحدث الخارجي العارض "والخاضع لعنصري الزمان والمكان العارضين رمزا لحقيقة إنسانية ثابتة لا تخضع لأي متغيرات وهي حقيقة العالم العلوي النوراني الذي يخضع لفلسفة الأرواح1.
أبرز الأعمال في هذا الاتجاه الفني والمحايد في الفكر السائد آنذاك نجد :
-مسرحية "العميان" لصاحبها موريس ميترلنك: تصوّر لنا فيها شخصيات رمزية وشخّصها بالعمى ليعطيها بعدها الرمزي في العمل الدرامي، وشخصية واحدة مبصرة هي شخصة القس الذي كان يقودهم في طريق غامض بغابة كثيفة يموت فجأة ويصيب الجماعة حيرة وقلق كيف يكملون الطريق فيعتمدون على حدسهم الروحي، والشخصيات هنا ليست محددة بمعالم معينة مكان وزمان بل يكتفي الكاتب ببث أفكاره الرمزية في صراع رمزي لأفكار روحية تتصارع في محاولة لاستشفاف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ينظر : نهاد صليحة، المدارس المسرحية، م ن، ص 23-24.
حقيقة وجودها بتوحدها مع النفس العليا للكون بدون وضعها في إطار الزمان والمكان حتى يكون التعبير الدرامي أكثر حرية في تجسيد المواقف الدرامية في المسرحية.
إنّ قوّة التشخيص الرمزي عند ميترلنك يعود لطبيعته المتصوفة واهتمامه بالغيبيات وتأثره بهوديني الساحر الذي أبدى قوة خارقة في السيطرة على عالم الأرواح واتصاله بهم وحلقات التنويم المغناكيسي الذي كان ميالا لها في فترة شبابه، كل هذا جعله واحدا من أهم الرواد الرمزيين في ثورتهم على الواقعية والطبيعية والمادية والخروج بمسرح رمزي ينفذ خلال العالم المادي ليصوّر أسرار الروح وخفاياها لذلك كان من الطبيعي أن تسيطر ظاهرة الموت على فكره سيدا وبطلا رئيسيا في كل أعماله الدرامية .
ولنا ولكم أن نتصور مشهد "العميان" وهم يتحسّسون طريقهم ببصيرة الروح، وصفة العمى قصدية للتدليل على العالم الروحاني في كشف وتفسير حقيقة معينة من حقائق الوجود، وفي هذا السياق يعبر الناقد الأمريكي "كينيت بيرك" عن فكرته في الرمزي عن الدراما قائلا بأن: "الإنسان يسعى للسيطرة على عالمه وأنسنته بطرق رمزية، فالرموز والتراكيب الرمزية في الفن ليسن إنسانية بشكل أساسي وحسب، وإنما يرى أن جميع الصيغ الرمزية بما فيها المجاز نابعة أصلا من الحواس"1 وهذا ما سعى إليه ميترلنك أنسنة شخصيات العمل الدرامي بشكل رمزي، طارحا فكرة الموت كحقيقة روحية لمرحلة ما بعد الحياة وهي فكرة لطالما شكلت ملهم ابداع الرمزيين في بحثهم المستمر في فلسفتهم الروحية متلمسين لها شتى الطرق للتوصل لخفاياها وأسرارها وفك طلاسمها لأنهم يتعاملون معها كرمز.
ولم يقل"المكفوفين" لأن الكلمة لا تدلل على قيمة اللفظ الرمزي الذي جسدها في كلمة "العميان" ذات البعد الروحي في اتصاله بالعالم الآخر ما فوق الواقعي وما وراء المحسوس في العالم المادي. وما يذكر عن دراما ميترلنك أنها صعبة التجسيد على الخشبة لأنها عبارة عن مسرح فكري تجريدي، لذلك يعتمد الإخراج فيها بقوة على السينوغرافيا الموحية بلغة الرموز كدلالة اللون في الضوء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ج.ل.ستيان، الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، م ن، ص 213
وفي اللباس وفي الماكياج إلى جانب دلالة الإيقاع في مَوْسَقَة اللفظ الرمزي أي نغمته الموسيقية.
وقد ساعد على إخراج مثل هذه المسرحيات الرمزية ظهور مسرح الصمت لـكل من أندريه أوبي وج.ج.برنارد الذي يعتمد على الإضاءة والإيقاع لإبراز لحظات الصمت البليغة والظلال الموحية التي تساعد على تجسيد المعاني فوق الخشبة، وأيضا ظهور مهندس ديكور متخصص في هذا النوع من المسرح وهو عالم التشكيل والضوء والموسيقى "أدولف آبيا" الذي استدحث أساليب جديدة في الإضاءة والتصميم المسرحي أحدثت ثورة على المسرح التقليدي إلى جانب إدوارد جوردن كريج وريتشارد فاجنروغيرهم من دعاة الشعر والموسيقى والذين تفردوا بمفهوم خاص للمسرح وهو اقتصاره على "نوع من هرمونية الحركة والإشارة، واللون والصوت، وأن يكتفي بالإماءة والرمز، وألا يتخطى ذلك إلى تجسيد الأشياء بالأشخاص"1.
خلاصة القول مسرح ميترلنك وكل المسرحيات الرمزية تجسيد لعالم الروح المتصل عن طريق الرمز بالواقع المادي في فلسفة طقوسية مبهمة للمجهول واللامعقول في الفكر البشري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-المخرج في المسرح المعاصر ، م ن، ص60