Annonces

المحاضرة السابعة: الاتجاه الملحمي

المحاضرة السابعة: الاتجاه الملحمي

par KARIMA HENNI,
Nombre de réponses : 0

المحاضرة السابعة: الاتجاه الملحمي

تمهيد

    تعود بدايات المسرح الملحمي إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي المرحلة التي بدأت بها المفاهيم العلمية لتغيير العالم قد دخلت حيّز التنفيذ والمباشرة، ولذلك يعدّ هذا المسرح المغيّر جزء من فاعليّة قوى التغيير العالمي وهي تستثمر إنجازات العلم والفلسفة ومناهج التحديث وبناء الاشتراكية كحلم وواقع لملايين البشر، وعلى هذا الأساس الماركسي أرسى برتولد بريشت1898-1956- نظرية المسرح الملحمي وسيلة من وسائل التوعية السياسية الماركسية ونبذ الطبقية والرأسمالية وأنظمة الحكم المتطرفة لليسار بادئا من النظام النازي لحكم هتلر بألمانيا، وإيديولوجيا مختلفة عن ما سبقها من أيديولوجيات المسرح العالمي اتسمت بالتعليمية السياسية قبل أي شيء آخر. وكان محطة أنظار العالم في كل أرض حط فيها الرحال شارحا تقنياتها وتعليماتها الفنية. ودفع برتولد بريشت الضريبة من حياته أن عاش طريدا، متنقلا من بلد لآخر خلال فترة اضطهاد النازية للفكر، ولم ينعم بالراحة إلا وهو ينشر مبادئ فلسفته الاشتراكية في المسرح في أي أرض حل بها من بلدان أوروبا والعالم شرقه وغربه، فعاش متنقلا بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية والدانمارك مارا  بدول أخرى كثيرة : السويد، فنلندة، الاتحاد السوفييتي، سويسرا، فرنسا، وهذا الترحال ساعده بالالتقاء بأهم المفكرين والعلماء وكبار الفنانيين أمثال تشارلي شابلن وتشارلز لوتون والعالم الذري الدانماركي "نيلز بور" أثناء هجرته إلى الدانمارك حيث أستوحى منه احداث مسرحية "حياة غاليلو الجاليلي" وكانت أنموذجا للظلم والقهر الذي تعرض له من ألمانيا الهتلرية، ولم يعد إليها إلا في المراحل الأخيرة من حياته بعد انتهاء حكم هتلر وانقسام ألمانيا إلى ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية ليتبدل الوضع السياسي إلى ظروف آمنة يضمن له حرية البقاء والعيش بسلام ببرلين الشرقية ويستعرض أخيرا فترة عمله في "البرلينر أنسامبـــــل"، وتزامنت هذه الفترة بعودة أستاذه أروين بيسكاتور من مهجره الولايات المتحدة الأمريكية

 

بعد عشرين عاما إلى برلين الغربية ليعاود هو الآخر نشاطه ليفتتح مسرح "فرايي فولكسبونه عام 1963م بعد ثلاث سنوات من عودة بريشت، وكان التلميذ الوفي لمعلمه، فما من مناسبة إلا وذكره فيها مدينا له مؤمنا بأفكاره التي زعزعت تقاليد المسرح في وقته "وفي محاضرة ألقيت في ستكولهم عام 1933 بعنوان حول المسرح التعبيري أكد أن طريقة بيسكاتور غيرت عمل المؤلف المسرحي والممثل ومصمم الديكور من خلال تحطيم كل التقاليد تقريبا"1 وأكمل مشروع أستاذه في المسرح الملحمي من بعده-بعد قصة نفيه وفشله في تكملة المسار- الذي ألف فيه كتابا مهما أكثر نضجا من كتاب بيسكاتور "المسرح السياسي" 1930م أسماه "الأورجانون الصغير للمسرح"عام 1939م .

     وقد عولجت المرحلة الأخيرة من حياة بريشت بشكل دقيق من جديد في كتاب عن العطاء الفكري لبريشت من الناقدة "كيتهة ريلكة فايلر" التي عملت مساعدة له يحمل عنوان: العمل المسرحي عند بريشت ظهر عام 1967م عالجت من خلاله المؤلفة " أهداف مسرحه، والوحدة بين التعلم والمتعة، والمسرح كمكان للتسلية، وبناء الحدث لديه، وقد شرحت هذا من خلال مسرحيات عدة أهمها: غاليلو، الأم شجاعة، قديسة المسالخ جان، وكوريولانس. كما أوضحت اختلافه وتعارضه مع يونيسكو وبيكت"2 وهي نقطة فاصلة في طبيعة الخطاب المسرحي الملحمي لدى بريشت ومسرح اللامعقول لصموئيل بيكت، بالإضافة إلى كتابات أرنست شوماخر النقدية لسيرة بريشت وهانس كاوفمن ولفيرنر هيشت، وفيرنر مينتسفاي، إليزابيت هاوتيمان، وجورج لوكاش ولو أن هذا الأخير في نقده يبدوا معارضا لفكر بريشت، وعدد من الكتاب والباحثين الآخرين الذين قدموا أعمالا قيّمة عن مسرح بريشت الطليعي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-ج.ل.ستيان الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، م ن، ص563

2-رياض عصمت، البطل التراجيدي في المسرح العالمي، دار الطليعة للطباعة والنشر-بيروت/لبنان، ط1، 1980، ص123

 

أصول المسرح الملحمي ـــ تجربة أروين بيسكاتور1893-1970

    تعود الأصول التاريخية للمسرح الملحمي إلى أروين بيسكاتور (1893-1966) في حركة مضادة للمسرح البرجوازي وتأسيسه لمفهوم مسرح البروليتاريا من خلال كتابه "المسرح السياسي"، مسرح قلب موازين نظرية الدراما شكلا ومضمونا، وحول المسرح إلى برلمان والجمهور إلى هيئة تشريعية، إحصائيات وشعارات تساعد المشاهد للوصول إلى قرارات سياسية. لم يكن ينتظر الهتاف والتصفيق علامة من علامات نجاح العرض بقدر ما كان يعرض العمل الفني للمناقشة العلنية، يستنطق من خلالها المتلقي مشاركا رئيسيا في برلمانه المسرحي بلغته البروليتارية وطريقته الملحمية في العرض" لقد حطمت تجارب بيسكاتور كل المواصفات تقريبا بتدخلها في تغيير مناهج الكاتب المسرحي الإبداعية، وأسلوب الممثل في العرض، وعمل مصمم المسرح، ذلك أنها كانت تسعى نحو تحقيق وظيفة جديدة كل الجدة للمسرح"1 شكل من أشكال الدراما التحريضية أو الدراما الدعاوية / البروباجندة وفرع من فروع المسرح السياسي لتلاقح فريد من نوعه على حد تعبير سعد اردش "عقد زواج بين التعليمية السياسية أو ما يسميه البعض بالبراباجندا السياسية وبين المعايير الثابتة في الفن"2، يؤكد فيه أن المسرح ليس مجرد عاكس للسياسة، بل صانع لها بما له من قدرة على التأثير الفكري والوجداني، بصفته تثقيفا سياسيا يتصادم مع تنامي الرجعية السياسية، وحولت  خشبة المسرح على إثره إلى ورشة آلية متبنيا المنهج التركيبي في أبحاثه التطبيقية عن طبيعة العرض المسرحي الجديد موظفا كافة الابتكارات الميكانيكية التي أتاحتها الاكتشافات التكنولوجية الحديثة ووضع تصميما جديدا يحقق أفكاره الاشتراكية وغاياته الإيديولوجية، بشكل ينقل الصورة الدرامية أو المشهد الدرامي إلى آفاق الذهنية الملحميّة لديه المبنيّة على روح التحريض والتوعية السياسية لأجل التفكير جديا في التغيير من الجذور، باللجوء إلى كافة الوسائل المادية التوضيحية من منشورات ومعلقات وبيانات وأفلام تسجيلية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-   إريك بنتلي، نظرية المسرح الحديث، تر: يوسف عبد المسيح ثروت، دار الشؤون الثقافية العامة-آفاق عربية العراق-بغداد، ط2، 1986، ص 91

2-   المخرج في المسرح المعاصر، م ن، ص180

وشرائح مصوّرة لربط الأحداث التي يتم عرضها بأحداث التاريخ القريب والبعيد من خلال علاقة دياليكتكية للكشف عن خبايا المستور والمسكوت عنه لأنظمة الحكم.

تجربة برتولد بريشت والمسرح الملحمي

    كان برتولد بريشت صاحب أيديولوجيا تعليمية وانتماء سياسي اشتراكي على خشبة المسرح وصاحب تجربة طويلة مع ألمع رواد المسرح العالمي رينهارت وبيسكاتور وشلر، شكلا المدرسة التي شغف منها المعرفة المسرحية والتكنيك الإخراجي الجديد وشارك في العديد من أعمالهما المسرحية كاتبا ومخرجا مساعدا وممثلا إن تطلب الأمر منه ذلك، عمل مع بيسكاتور مدة لا يستهان بها امتدت من 1919م إلى 1930م على مسرح فولسبونه،  أخذ عنه الخبرة وسانده في أفكاره عن المسرح الملحمي الذي كان جديدا كل الجدة عن الممارسات المسرحية في ذلك الوقت وأسلوب مبتكر في الجهاز التمثيلي يختلف كل الاختلاف عن أساليب التمثيل التقليدية والتي صارت من وجهة نظرهم بائدة ولا توفي بالغرض التعليمي لأنها تستعمل التخدير بدلا من التحريك والخداع عوضا عن التنوير من خلال نظرية الايهام المسرحي وفكرة الجدار الوهمي الذي يقضي بضرورة وحتمية الاندماج الفعلي في الدور ومعايشة المتفرج له مما يخلق منه متلقيا سلبيا مسلوب الإرادة والوعي، وهذا ما ترفضه النظرية الملحمية التي عمل بريشت على تطويرها بعد بيسكاتور، وحتى في فترة حياته فالمسافة التي كانت تفصل بين ألمانيا الغربية حيث إقامة بيسكاتور وألمانيا الغربية حيث إقامة بريشت لم تقف عائقا عن تكملة المشروع الملحمي الذي بدأه مع معلمه وآمن بمعتقداته الفكرية في المسرج الجديد والذي أطلقا عليه معا اصطلاح المسرح الملحمي باكتشافهما لتقنية التغريب ولو ببعد فلسفي أكثر منه تقني بالنسبة لبريشت بعد انفصاله عن الرائد بيسكاتور بفعل الظروف السياسية لألمانيا وما عانياه من التهجير والمضايقات المتعنتة لحضر فكر لا يخدم مصلحة نظام الحكم النازي لهتلر وأتباعه بعد وصولهم لزمام السلطة الألمانية وبالرغم ذلك صمدا في وجه الطغيان وأكملا المسيرة النظالية من المسرح الملحمي لآخر نفس في أي بقعة من العالم وطأتها أقدامهما.

     قامت نظرية المسرح الملحمي لبريخت على تعاليم الفلسفة الاشتراكية العلمية وكان وقتها سيد الواقعية الجديدة نابذا كل أشكالها البدائية أو السكونية إلى الواقعية الطبيعية النقدية أين كان الإخراج المسرحي في دوامة من التجريب وحيث "كانت الواقعية تتقوّض وتوجهات جديدة توضع على محك التجربة"1 في ثورة على مبادئ المسرح الكلاسيكي، ولكن هذا لا يعني جهلها التام بها "ولعل كايزر كان أول شعراء المسرح تعبيرا عن الإحساس الكامن في قلب الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، والفلسفة الاشتراكية العلمية التي كانت الفلسفة الكلاسيكية  أحد مصادرها الأساسية"2 وكان بريشت في عمله مع هؤلاء سواءا الاتباعيون أو الواقعيون التقليديون ينتقي الأفضل والأصلح والأنسب بوجهة نظر ثاقبة لمنهجه الجديد في المسرح متخذا مسارات مختلفة من طريقة كتابة نصوصه الدرامية وأساليبه الإخراجية لها وطرقه  المبتكرة في فن التمثيل من خلال ما وصفه في تنظيراته بمشهد الشارع .

    بقدر ما كان بريخت نابذا للمسرح البرجوازي بقدر ما كان مهتما بقضايا المسرح البروليتاري وكيفية إيصال خطابه الإيديولوجي على أساس متين من الدعاية السياسية العلمية الرامية إلى توعية جمهور هذه الطبقة بفساد خصومها ، وحتمية رفض عالمهم وتقويضه  خاصة في ظروف هزيمة الثورة الألمانية "لم يعد من الممكن أن تمتلئ منصات المسارح بجموع العمل الساخطين على ظروف العمل والداعين إلى الإضراب أو السلام، كما كان الحال أيام ازدهار اللغة التعبيرية على المسرح. كذلك لم يعد من الممكن أن يستقبل الجمهور الدراما الفردية المعبرة عن تمزقات المثقفين النادمين على الثورة، أو العائبين على القوى الثورية عدم كفاية وعيها ولا كفاءة منظميها"3 فكانت الدراما الملحمية بديل الدراما الفردية وأحسن وسيلة للتبليغ الجماهيري في ممارسة الوعي السياسي ومناقشة ما يحدث  والتقلبات التاريخية لألمانيـــا في عملية إسقاط للوضـــع المأســـوي لإنسان العصر جراء النظــــم الفاســـدة في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، م ن، ص 573

2-سامي خشبة، قضايا المسرح المعاصر، منشورات وزارة الإعلام ــــــــ الجمهورية العراقية، 1977، ص79

3- قضايا المسرح المعاصر، م ن، ص81

محاولة لإعادة بناء موضوعي لعصر أو لمجتمع وهو خلق دياليكتيكي محض يطرح من خلاله بريخت موضوع العالم كما هو للمناقشة، وهو خلق منفتح عن العالم وتحوّلاته ودواعي التغيير تبدأ من ذات المتلقي/المشاهد أولا ثم المجتمع ثانيا،عليه أن يغير ذاته  وأسلوبه في التفكير ليتسنى له التغيير في مجتمعه بما شاك وضعه واستعصى وجوده. إنها التعليمية البريشتية التي تجاوزت التقنيات البيسكاتورية الضخمة والأساليب البلاغية الجديدة للمسرح المتعدد الوسائل في تقليص لمفهوم المكننة الدرامية وتوسيع لفكرها الجوهري الذي لطالما أرق بيسكاتور وأثقل كاهل مسرحه بالمعدات الآلية إلى توظيف أخف لبعض التقنيات المسرحية التي يؤول إليها مفهوم التغريب في المسرح الملحمي "كشاعر أقل اهتماما بالمعدات الآلية، يهتم أكثر باستخدامات اللغة، ولذلك تطوّر مسرح بريشت  متخذا مسارات مختلفة"1 أخفّها ميزانا ووطأة على الخشبة مقارنة بما خلفه بسكاتور من تركة ثقيلة للمسرح المتعدد الوسائل، مع الإبقاء طبعا على جوهر الفكر المسرحي الملحمي القائم على التغريب بمعنى التبعيد أي أنّ "الحادثة بعيدةكل البعد مما نعنيه بالفن، لا حاجة بالمطبق أن يكون فنانا . أما القدرات التي يحتاجها لتحقيق هدفه فهي قدرات شمولية في  تأثيرها. لنفرض أنه لا يستطيع القيام ببعض الحركات الخاصة، بسرعة الضحية التي يحاكيها، إن كل ما يحتاج إليه هو شرح مضاعفة سرعته إلى حد ثلاثة أمثالها وبذلك فإن التطبيق العلمي لن يفقد سماته الجوهرية ولا مساره"2، وهو الأرضية الصلبة التي بنى عليها بريشت نظرية المسرح الملحمي.

  خصائص الدراما الملحمية عند برتولد بريشت

-التطبيق آلية من آليات العرض الملحمي

    المشهد في المسرح الملحمي عبارة عن تطبيق –كمعيار لأي فكر ينتجه الطرح الموضوعي- والمؤدي يدعى المطبق يقدم رؤية توضيحية لموقف معين عن طريق التناول النقدي، والمطبق لا بد أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، م ن، ص572

2-نظرية المسرح الحديث، م ن، ص 76

يكون ناجعا أو خبيرا في إثارة النقد لدى الجمهور بأن يقحمه في حكم العقل والتفكير لا الاندماج والتعايش، ومبدأ التحول هنا وارد من التصرف المعقول إلى التصرف غير المعقول أو على الضد وهنا للتعليقات دور في العملية التواصلية، والتطبيقات كثيرة في الحياة اليومية تمثل بالنسبة للمتفرح المرجعية في التفسير والتأويل لسياق الخطاب المسرحي في الدراما الملحمية، قد تكون غنية ومتنوعة، وعلى ذلك سيرينا الاختبار اللصيق وهو الممثل بالجمهور أن هذه المحاكاة بكل تعقيداتها تركز على موقف معين ليس بالضرورة أن يجتهد المطبق في تمثيله تمثيلا حيا بمعايشة الشخصية بكل أحاسيسها واستحضار لو السحرية للوصول إلى عمقها كما تنص نظرية ستانسلافسكي في فن التمثيل، بل يكتفي فقط بالوصف للعيان، ويضرب لنا بريشت مثلا لهذا الوصف بمشهد الشارع حيث يكون أحد المارة على الرصيف وفجأة يحدث حادث سيارة مؤلم كيف يعيده على مسامعنا بما رآه وعاش  اللحظة، الأمر أكيد سوف يكون عن طريق الوصف أو الروي أي الحكي الطبيعي لما شاهده فعلا كشاهد عيان ليس إلاّ وهو المطلوب تطبيقه من الممثل البريشتي في الدراما الملحمية "لا بد للمطبق المسرحي، للممثل، أن ينفذ تقنية تسمح له بإعادة خلق نبرة الموضوع المطبقة، بشيء من التحفظ والانفعال حتى يستطيع، حتى يستطيع المتفرج أن يقول: عبثا ما أثير، كان الوقت متأخرا، وأخيرا ...إلخ وبالإيجاز لا بد للممثل أن يظل مطبّقا، عليه أن يعرض الشخص الذي يطبق عليه بصفته إنسانا غريبا، عليه ألا يغمط عنصر الرواية (فعل ذلك، وقال ذلك) في تمثيله، عليه ألا يذهب في تحويل نفسه كلية، في تقمص الشخص الذي يمثله"1 أي التقمص يكون جزئيا لأداء فعل التغريب في التطبيق المطلوب والتطبيق هنا في ورشة بريخت الملحمية يعني المشهد، وفي هذه النقطة يستحضرنا مشهد القوال أو المداح في حلقاتنا الشعبية وطريقة استعراضه للحكاية على مسامع الحاضرين في المجمع الحلقوي ساحة عمومية أو مقهي أو سوق شعبية أو حتى تظاهرة شعبية في زردة أو حفل شعبي أو ما يقارب شكل السرد في الأحجية الشعبية التقليدية، وهذا فعلا ما انتبه إليه مفكرينا المسرحين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- نظرية المسرح الحديث، م ن، ص82

وهم يستعيرون هذا التكنيك لبريشت في توظيف تراثياتنا المفعمة بالأشكال الفرجوية المسرحية في طابعها الحكائي-السردي.

-تأريخية الأحداث

     عمل بريشت على تغريب الحدث أو الشخصية في المسرحية عن طريق إحالة الشخصية والحدث إلى الزمن الماضي ويوغلهما في التاريخ محاولة منه أيضا التهرب من الرقابة السياسية  لمعارضته النظام السائد في عصره، وهوتكنيك جديد في أساليب كتابة الدراما الملحمية بلغة جدلية مستفزة لعقل المتلقي/المشاهد تحثه على التفكير فيما يعرض أمامه بعمق ويقحمه من دون أن يشعر في العملية الجدلية ومقارنة الأمور التاريخية الماضية بما يحدث الآن وكأنه يردد في درامياته "عبارة التاريخ يعيد نفسه" كشفرة رئيسية لتحليل الخطاب المسرحي وهذه العملية التأويلية تستدعي يقظة الفكر بغية النقد والتقويم وإخضاعه القسري للانتباه والإنتقاد العقلي لما يجري حواليه من فساد سياسي وضرورة الثورة عليه لأجل التغير، وقد استعمل أسلوب السرد في روي الأحداث التاريخية أو وصف الشخصية التاريخية عن طريق استرجاع الأحداث –فلاش باك- ووجد نفسه ملزما أن يبحث عن صيغة جديدة للكتابة الدرامية تتناسب وطبيعة العصر الذي تغيرت لهجته الخطابية عن الأنماط القديمة "لقد كان التأريخ  مفهوما آخر من مفاهيم بريخت الوثيقة الصلة بالتبعيد –تعزيز الوعي بأن الحدث يجري وكأنه ف الماضي وجعل الحاضر يبدو غريبا"1 وكانت المسرحية تبنى على سلسة من المشاهد أو الأحداث بحيث يوضع في بداية كل مشهد عنوانا مكتوبا يبقى في مكانه لحين تغيير بعنوان فرعي آخر لمشهد آخر يقدم وصفا تاريخيا لحدث أو أحداث المشهد/ التطبيق، لذا استوعب بريخت سر الدراما جيدا بأسلوب علمي –كان علميا بقدر ما كان فنانا- فلم يقلد أو ينقل، بقدر ما أجهد نفسه في الحفاظ على جوهر الدراما مع تطويع موضوعاته لظروف مجتمعه وبيئته واقترح البديل المناسب لمتلقي اليوم وهو التغريب بدل الاندماج عن طريق أسلبة النص التاريخية موظفا الشخصية الراوية والتي قد تكون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، م ن، ص580

من الشخصيات الدرامية للعمل الملحمي التي تتولى المهمة الملحمية في سرد الأحداث وشرحها عن طريق ضمير الغائب أو المخاطب والنسبة إلى الزمن الماضي، فلا يهم عند بريشت الخصوصية في بناء الشخصية الدرامي تحقيقا للغرابة في المشهد أو الشخصية بجعلها غريبة عن الشخصية المؤادة أي خلق مسافة بينها وبين الدور وبين المتفرج أيضا "المتفرج لا يشاهد أحداثا واقعية تجري أمام عينيه إنه جالس في مسرح وكأنه يسمع تقريرا موضحا بالوثائق والصور عن أحداث وقعت في الماضي في وقت مكان في مكان ما، ومن أجل الحفاظ على انفعال المتفرج وتغريبه عن الحدث يسقط أسماء الشخصيات على الشاشة"1 رياض موسى سكران، (مقارنة قرائية في الرؤية الإخراجية لإبراهيم جلال ونظرية المسرح الملحمي)، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2001، ص56 تجنبّا للمعايشة السلبية التي من شأنها خلق متلقي سلبي بمفهوم بريشت للمسرح الأرسطوي، مسرحة المسرح لكن النص الذي يكتبه بريشت له أسلوبه الخاص بحيث يولي أهمية كبيرة للغة الملحمية التي تتميز بالنقد الجدلي ولا يهتم أن تكون اللغة كلاسية بقدر ما تكون معبرة عن الموقف ذاته في المسرحية ولو كانت بالعامية المهم لغة مفهومة وقريبة من وسط المتلقي المعاش.

-منهج الدياليكتيك

      تتميز الدراما الملحمية عند بريشت بلغة الدياليكتيك، ما دعى لإطلاق الاصطلاح عليها بالدراما الجدلية، فتاريخ المسرح الملحمي هو تاريخ الثورة والتفاعل، حيث الأشكال الجديدة تخرج عن تقاليد الدراما الواقعية وتكسر قواعد النظرية الأرسطية نصا وإخراجا بتجاوزها لمبدأ الوحدات الثلاثة ومبدأ الاحتمال والضرورة الحتمية وظاهرة الكتارسيس لأفق فكري أكثر جدلا للحياة وتناقضاتها بعرض أحداث تستهدف إثارة العقول وتحريكها،فيقدم مواضيعه بطريقة جدلية،منتهجا أسلوب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-رياض موسى سكران، (مقارنة قرائية في الرؤية الإخراجية لإبراهيم جلال ونظرية المسرح الملحمي)، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2001، ص56

الدياليكتيك لهيقل كضرب من ضروب المنطق، مؤمنا بالنظرية العلمية والتي تقضي بحتمية توليد العقل للتناقضات وصولا إلى الحقيقة عن طريق مبدأ الريبية أو الشك اليقيني العلمي بإخضاع العقل للتجربة محاولا الكشف عن كل تضميناتها –أنساقها المضمرة- بالبحث عن الأشياء واكتشافها ودراسة المتناقضات وإزالتها ليصل إلى الحقيقة النهائية وهي الحقيقة الكلية التي لا يتعارض معها المنطق واليقين العلمي، مدحضا بذلك ــــــ بريشت ـــــــ حجة برهان الخلف التقليدية ويتضح لنا هذا من خلال تجاوزه لقوانين المسرح التقليدي لأنها بنظره لم تصبح صالحة لهذا الزمن المتغير والمتجدد بظروفه، والحقيقة عند هيقل هي نظام معقد من العلاقات الضمنية متعارضة تتصارع فيما بينها حتى تصل إلى "مركب نقيضين يضم كل اللحظات وكل المبادئ ويعلو عليا كلها وكل حل للصراع أو مركب جديد للنقيضين يشتمل بداخله على تلك اللحظات أو المبادئ أو القوى التي أدت إليه والتي يمكن أن تعاود نشاطها الجدلي المرتبط بالصراع مرة أخرى من جديد"1، وقد استوعب بريشت جيدا دياليكتيك هيقل وفهمه عن دراية ومعرفة "بعقلية الطبيب المشخص لمكامن الداء علميا قبل تقديم وصفة الدواء، واستطاع أن يدخله في مسرحه الذي ظل مميزا وصار مدرسة للرياضة العقلية والنقد الاجتماعي والنقاش الفكري"2 حيث وجد فيه مادته الأساسية في تقديم موضوعاته من أجل مختلفة تماما وغير متشابهة مع مناهج العرف التقليدي لفن الدراما الأرسطية المبنية على فلسفة مثالية تطبيق أيديولوجيا تعليمية وأحيانا سياسية على خشبة المسرح، وهذا العرض الجدلي أفضى إلى جمالية جديدة في فكر المتلقي محظة لذلك فبيريشت يرفض أن يكون مكان أرسطو أو شكسبير أو راسين فكل وجد للعصر والظرف الذي صنعه والمتغير حتما لطبيعة ظرفه وعصره بحكم التطور الدياليكتيكي للحياة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-ينظر: جدلية بريشت مقال بغداد أو قلعة جي عبد الفتاح، المسرح الحديث-الخطاب المعرفي وجماليات التشكيل، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، سلسلة الدراسات الحديثة(11)، 2012

2-ينظر: ألكسندر، العناصر الأساسية لإخراج المسرحية، بغداد، تر:سامي عبد الحميد، دار الحرية للطباعة، 1974

 

-الفكر الماركسي الاشتراكي أو الفلسفة الاشتراكية العلمية

      وفي اتباعه لمنهج الدياليكتيك الهيجلي كان يميل إلى ما جاءت به المدرسة الماركسية من تغيير في الصراع الطبقي ونبذها للبرجوازية المتعنتة، وآمن بقيم الاشتراكية وأصبحت عنده قناعة تامة بأن الصراع الطبقي الذي كان قائما في ظل النظام الرأسمالي هو الرجعية السلبية ذاتها في طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية أضمرت حقوق الانسان البسيط وجعلته لاشيء في منظومتها الامبريالية، الشيء الذي جعله مؤمنا بحركة المسرح العمالي وواحد من المنظمين إليه، وأخذ على عاتقه مسؤولية الكتابة الدرامية في ضوء قضايا الفكر الاشتراكي العلمي المتجسد في محاكاة شاملة للإنسانية، لتمثيل قضايا معاناة الانسان في أي بقعة من العالم من خلال تسييس المسرح وفقا للمنهج العلمي   الماركسي، لأن فهم التاريخ كما يقره الفكر الماركسي هو فكر جماعي نظالي مستمر وأن حرية التفكير والنقد هي جوهر النظرية الماركسية في نشرها لمبادئ الاشتراكية التي بموجبها تحرير الإنسان من أي عبودية في المجتمع ومن أي اتباعية لنظام متطرف. ويظهر هذا جليا في تحديه وصراعه ضد نظام النازية الألمانية والحزب الليبيرالي الرجعي الذي أدحض مبادئ الثورة في كل أعماله المسرحية من خلال عملية إسقاط لبيئات بعيدة عن البيئة الألمانية مثلا في الهند في مسرحيته "الإنسان هو الإنسان"1927 وفي الملايو أين تجري أحداث مسرحيته "في أدغال المدن" 1924 ومسرحية "أوبرا القروش الثلاث" في لندن وأحداث مسرحيته "صعود وسقوط مدينة ماهاجوني" 1929 بالغرب الأمريكي، وأحداث عمله "القديسة جان في السلخانة 1933 والآخر"صعودأرتورو ووي، الممكن مقاومته" بشيكاغو إلى غيرها من الأعمال التي جسد فيه بريشت قمة الظلم الإنساني وفساد الخصوم المتمثل في نظام ما أو هيئة تشريعية ما وحتمية رفض هذا العالم الطاغي والتقويض عليه، معتنقا مبادئ الماركسية القائمة على الفلسفة العلمية الاشتراكية كمنهج لكل عمل ثوري أو على الأصح لكل تطبيق ثوري في مسرحيات بريشت التعليمية والبروباجندية في الدعاية العلمية السياسية الرامية إلى توعية الجمهور واستفزازه وتحريضه على قلب النظام الاجتماعي للسياسة الرجعية الممارسة في حقه، وهو حقده الدفين وهدفه الإيديولوجي في " تشريح القيادة النازية وفضح الطبيعة الإجرامية لجزبهم وعملهم السياسي على خلفية من جو عصابات شيكاغو وغيرها "1 .                                        

     هذه هي أهم الركائز المعرفية والفنية التي قامت عليها الدراما الملحمية لإحداث التغريب، وقد عرفت أيضا بالدراما الجدلية عند بريشت كما يحبذ لبعض نقاد المسرح الملحمي تسميتها، كما يدرجه آخرون ضمن أسلوب المسرح الاطلاحي أو اللاإيهامي الذي يوصف عادة بأنه ضد المسرح- Anti-theatre لأن أول ما يبدأ به هو "الاعتراف الصريح أن خشبة المسرح ليست إلا خشبة مسرح، ولا يمكن أن تكون مهما بولغ في النقل الحرفي ... ولا شك أن ذلك يذكرنا بالمسرح الملحمي، الذي يعد مفهومه كنص وإخراج، ضد الإيهام بالواقع، حتى يجعل المتفرج رقيبا على ما يراه، وقادرا على إصدار قرارات، واتخاذ مواقف"2 والتسمية تنطبق أيضا على المسرح اليوناني الكلاسيكي  والمسرح الشرقي القديم "كان يستخدم الجوقة، والأقنعة، والأزياء، والحركات التمثيلية ونحوها كمواضعات، يتقبلها المشاهد دون مساءلة أو مقارنتها بالواقع"3 وهو محمل الفرس في المسرح الملحمي حيث كان برتولد بريشت سباقا لاكتشاف سر الدراما باعتبارها تمحيصا نقديا للحياة، نقدا كان يجسده بشكل متزايد في مسرحياته دون الوقوع في مطبات التقليد للمسارح التي سبقته بالتجديد والتغيير الذي يقوم على المساءلة والمقارنة بالواقع فهو مسرح أيديولوجيا قضية يعرضها ركحيا، فالتغريب موجود منذ القديم لأنه حتما في الأخير المشاهد البدائي على معرفة بأن ما يقدم أمامه مجرد تمثيليات وتلك المناظر للديكورات الضخمة حتما مغايرة لما يعيشه لكنها وجدت لغرض الايهام وهنا مفهوم التغريب يكتسب خصوصية مستقلة عما أشاد به بيسكاتور وبريشت، فالمشاهد مكبل بالمشاهد والشخصيات مندمج فيها لحد استئثار عاطفتــي الخــــوف والشفقـــة ولا يحـــقّ له المناقشــة لأن ذلك كفر

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-سامي خشبة، قضايا المسرح المعاصر، م ن، ص85 .

2-إبراهيم حمادة، هوامش في الدراما والنقد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، د ط، 1988، ص 132ــــــ133

3-م ن، ص133

 وإلحاد بالآلهة صانعة القرار، لكن بريشت استفرد بمفهوم التغريب مفهوما أيديولوجيا محضا يعني بكسر الجدار الرابع ووضع المتلقّي أمام واقعه للنقد الفكري والمقايضة السياسية المعلنة مسبقا في شعاراته ولافتاته الموظفة في التطبيق/المشهد تمهيدا لثورة يحدثها المتلقي بموقفه الايجابي إزاء القضية المعروضة أمامه وفي ذالك يبرهن استيعابه الفني في موقف المرء السياسي.  

      خلاصة القول في مسرح بريشت الملحمي/ الجدلي مقارنة بمسرح بيسكاتور المؤسّس الأول لنظريّة المسرح الملحمي نطرح التساؤل الآتي: هل هناك وجود للدراما الملحمية؟ حسب فلسفة بيسكاتور الاشتراكية فلا وجود لها بل نص مسرحي مصنوع بأحدث الوسائل التكنولوجية لتمرير رسالة العرض، لكن حسب فلسفة بريخت فهي موجودة وطوّرها نظريا وعمليا عما كانت عليه عند ملهمها بيسكاتور من خلال التأسيس المنهجي القائم على الأصول العلمية لنظرية إبستيمولوجية كاملة مؤصّلة في الفن المسرحي بنهجه الإبستيمولوجي القائم على نظرية المعرفة لهيقل وماركس الاشتراكية.

نماذج من المسرح الملحمي لبرتولد بريشت

 -جاليلو الجليلي

      كتبها عن عالم الفيزياء "غاليليو" عالم يبحث في الحركة والسرعة والسقوط واخترع ترمومتر وأثبت أن الأرض كوكب صغير يدور حول الشمس مع غيره من الكواكب، ما أثار حفيظة السلطة الديبنية بعد علمها بالأمر حيث شكا بعض أعدائه إلى السلطة الكنسية الكاثوليكية بأن أفكار "غاليليو" تتعارض مع أفكار الكنيسة، فاتّهموه بالهرطقة واستدعي إلى روما وهناك تمكن بمهارته الإفلات من العقاب لكنه أجبر على عدم العودة إلى كتابة هذه الأفكار، وظل ملتزما بوعده لكنه بعد حين كتب بنفس الأفكار، وفي هذه المرة أرغمته الكنيسة على أن يقرر علانية أن الأرض لا تتحرك على الإطلاق وأنها ثابتة، ولم يهتم "غاليليو" لهذا التقرير العلني وحكم عليه بالسجن ولكن بعد ذلك خفف الحكم عليه إلى الإقامة الإجبارية، وتم منع كتبه وظل منفيا في منزله حتى وفاته عام 1642، وتم دفن جثمانه في (فلورانسا) المدينة التي كان يعيش فيها تحت نظام السلطة الدينية للبابا.     

        استوحى (بريخت) من هذه القصة مسرحيته المعنونة "جاليليو الجليلي" تعكس واقع الحياة المرة وأزمته الشخصية التي كان يعيشها، فاختار شخصية العالم الفيزيائي:غاليليو كشخصية محوريّة في هذا هذا النوع من الدراما الملحمية، طرحها لتشابه معاناة (غاليليو) مع معاناته الشخصية.

     إن "غاليلو" هذا العالم الفيزيائي والفلكي قد اختار إما أن يعيش بين العمل الشاق وحياة الرفاهية في خدمة حاكم (فلورنسا) - حيث كان نظام حكم فيها نظام ديني وبسلطة (البابا) الذي كان مسيطرا على مقاليد الحكم فيها - وبالتالي فقد وجد "غاليليو" بأن أبحاثه في قوانين الفيزياء والفلك والتي أحدثت ثورة حقيقية في العلم ستكون حياته مهددة بالخطر بسبب تعارضها مع التعاليم الدينية للكنيسة، كما حدث لمن سبقوه من العلماء، ولهذا كتب "غاليليو" مؤلفا علميا دون إن يفصح عن مضمونه لأحد لكي لا يكشف أمره، تضمن على أبحاثه الهامة في نظريات العلم وهي في غاية الأهمية، وقد استطاع أحد تلاميذه تهريب الكتاب ونشره.

    وفي موقف تلميذ جاليلو "صور الشجاعة التي تعرف إمكانيات عصرها فتحرص على الإفلات من أنياب العصر لكي تستنفد حقها في الاستمتاع بالحياة وفرصة توصيل الوعي الذي تملكه إلى الأجيال القادمة ... وهي بطولة الوعي نفسه أو المعرفة النابعة من قدرة الإنسان على التوغل في خامة الحياة الأصلية بالعقل وبالحواس سواء بسواء"1 وهو أسلوب المراوغة التعليمية الممزوجة بالوعي التسييسي كعادة بريشت في كتاباته الدرامية الملحمية، فبالرغم من الهلع الذي كان يعيشه جاليلو بسبب اكتشافاته العلمية في عصر الظلمات وموقفه السلبي في التراجع عن مهمته العلمية ووقف أعماله إلا أن بريشت يخلق شخصية التلميذ الشجاع الذي يحبط في أستاذه ومن ثم يكمل مسيرته بكل شجاعة في نشر منشوراته العلمية2، وهو التغيير الذي أراده بريشت في لهجته الجدلية في كتابة نصه الدرامي هذا الموغل بالأحداث الملحمية.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-قضايا المسرح المعاصر، م ن، ص86-87

2-ينظر: رياض عصمت، البطل التراجيدي في المسرح العالمي، دا الطليعة للطباعة والنشر –بيروت، ط1/1980، ص127

لاقى جاليلو جراء هذا الاكتشاف التهميش والتهجير والحضر وتوقيفه عن تعليم التلاميذ خاصة أبناء البرجوازية مصدر عيشه، ويتحول المشهد إلى صراخ الخوف بدل هتاف النصر في المشهد أو التطبيق الرابع عشر من المسرحية.

أثر الاتجاه الملحمي في المسرح المغاربي

تأثر المسرح المغاربي ببرتولد بريشت

      كان الدرس البريشتي في نظرية الدراما الملحمية كفيل بالإجابة على كل أسئلة مثقفينا السياسين ذوي الميولات المسرحية كتابة وإخراجا لتصحيح الوضع والخروج بحل بديل لاسترداد الثقة بالنفس العربية وبالمواطن العربي أينما حل وكان. وكتبت العديد من المقالات والأعمال النقدية بعنوان النكسة تثور المسرح، وفيما بعد النكسة جاءت محاولات التأصيل العربي لأجل مسرح مغاير ومستقل بإديولوجيته العربية المتأصلة في تراثياته وثقافاته الشعبية نحو إثبات الهوية العربية بأسلوب حضاري متمدن وراق في التفكير المنهجي القائم على أصول معرفية محظة في نظرية الفن الدرامي.

      تلك المادية الجدلية استدعت انتباه المفكر المسرحي العربي في استجابته لحاجة الفهم فيما يجري على أرضه وتفكيك قضاياه وصولا إلى تركيبها في النهاية تركيبا يؤسس لمفهوم الوعي  بالحقيقة.      ولم يجد أحسن ممثل لذلك غير مسرح بريشت الانتقادي، فصمم على لحق الركب الحضاري بأسلوب متمدّن للفعل الثقافي المسرحي عموما ولمفهوم المسرح الملحمي خصوصا العامل على تغيير حياة الإنسان وتخليصه من صراعات الطبقية بعرض مجموعة من التناقضات الاجتماعية بعواملها السببية ومخلفاتها السلبية . وفي هذا السياق يؤكد رياض عصمت في مؤلفه البطل التراجيدي في المسرح العالمي قائلا:"واليوم، أصبحت لبريشت في دول العالم الثالث أهمية متزايدة، جعلت كتابه على تعدّد وجهات نظرهم الفنية نظرهم الفنية ومذاهبهم الفكرية يفيدون منه بشكل أو بآخر"1 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-رياض عصمت، البطل التراجيدي في المسرح العالمي، م ن، ص126

       نجد من الجزائر مسرح على سبيل المثال وليس الحصر الحلقة لعبد القادر علولة في ثلاثيته الجواد والأقوال واللثام والمسرح الشعبي لولد عبد الرحمن كاكي في ديوان القراقوز والقراب والصالحين و والدراما الملحمية لكاتب ياسين الذي أبدع في تجسيدها نصا وركحا في مؤلفه دائرة الطوق والاضطهاد العنوان وحده كاف بملحمية العمل من خلال ثلاث نصوص مسرحية صنعت الجدل في الساحة الثقافية الدولية الجثة المطوقة والأجداد يزدادون ضراوة بالإضافة إلى عمله المتميز في الدراما الوثائقية الرجل صاحب النعل المطاطي وتلك اللغة التعبيرية الراقية بأسلوب الجدل التاريخي، ومن المغرب المسرح الاحتفالي لعبد الكريم برشيد أبدع فيها نصا وإخراجا في عمله ابن الرومي في مدن الصفيح وفي عطيل والخيل والبارود، والطيب الصديقي في مسرحية أبو حيان التوحيدي الذي كان مميزا باستلهام مسرح البساط المغربي، ومن تونس عز الدين المدني في روايات رأس الغول ورسالة الغفران.. وغيرهم كثيرون ممن عنوا بالاتجاه الملحمي  كتابة وإخراجا.