دعائم الحكم في الإسلام:

هنا نبحث عن الدعائم التي يقوم عليها الحكم في الإسلام، ونعني بها الأصول التي تحدد منهج الحكم وغايته ، وعلاقة الحاكم بالمحكوم ، حتى لا ينحرف الحكم عن سواء السبيل، ويمكن تلخيصها في نقاط أربع هي:

1ـ السيادة للشرع، والقرآن دستور الحكم.

2ـ مسؤولية الحاكم.

3ـ مسؤولية الأمة.

4 ـ الشورى.

أولاً : السيادة للشرع :

الأصل في النظم السياسية المعروفة أن السيادة للأمة، تشرع لنفسها ، وتفعل ما تشاء.

لكن الأصل في الإسلام أن السيادة لشرع الله ودينه، فإن الحكم في الأصل لله وحده، ليس لأحد حكم ولا شرع معه، وعلى الأمة أن تتقيد ولا تخالف أمره.

وقديماً قال أرسطو: "إن السيادة يجب أن تكون للقانون"، وخالف بذلك أستاذه أفلاطون الذي قال: "إن السيادة ينبغي أن تكون للحكام الفلاسفة"، ومع الفارق بين الفكرتين، فإن القانون الذي يعنيه أرسطو هو من وضع البشر سواء وضعه فرد أو جماعة، وهو مهما بلغ قاصر قصور الإنسان الذي يجهل نفسه، ولا يستطيع أن يضع لها منهجاً يغنيهـا عن دين الله الذي أحاط بكل شيء علماً.

والشرع الذي له السيادة عندنا هو القرآن الكريم ، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"(النحل:4).

فالقرآن الكريم هو دستور الحكم ودعامته الأولى، فمن أجله أقيم، وعليه يعتمد في نظامه وإدارته وسياسته، وطاعته، فهو مصدر السيادة، إليه يرد الأمر عند الخلاف، وبأحكامه وتعاليمه يلتزم الحاكم والمحكوم ، فهو الذي يحدد صورة الحكم ومادته، كما أنه الأساس الذي تبنى عليه الحياة في الدولة كلها.

ولا تقدر الحقوق ولا الواجبات، ولا تنفذ القوانين والعقوبات إلا بحكمه، ولا تعلن حرب ولا يجنح لسلم، ولا يعقد صلح، ولا يبرم عهد إلا باسمه ورسمه، هو الحاكم على الإمام والأمة، وهو الحكيم في كل قضية:

قال تعالى: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" (المائدة:48).

ومن ثمَّ فهو عصمة الأمة، وجامع كلمتها، كما أنه نظامها وقانون سعادتها، وكل حكم أو نظام لا يقوم على أساسه أو يشذ عن أحكامه فهو باطل منهار.

ثانياً : مسؤولية الحاكم :

الأصل في نظام الحكم في الإسلام أن رئيس الدولة هو المسؤول الأول عن إدارة شؤونها، غير أن بعض الفقهاء من المسلمين أجازوا لرئيس الدولة أن يفوّض لغيره مباشرة سلطته وتحمل مسؤوليته، مادام في ذلك مصلحة عامة، واستدلوا بقوله تعالى حكاية على لسان نبيه موسى عليه السلام: "واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري" (طه).

قالوا: فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز، واستدلوا بأن تدبير الأمة لا يطيقه الإمام إلا باستنابـة شخص أو وزارة تضطلع بالأمر يسمُّونها وزارة تفويض ، أي يفوض إليها تدبير الأمور باجتهادها، وتكون هي المسؤولة بالنيابة.

لكن ذلك لا يخلي الإمام شرعاً من المسؤولية ، وفي عنقه بيعة وأمانة، والله يقول: "ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى" (فاطر).

فالحاكم مسؤول بحكم المسؤولية العامة، قال صلى الله عليه وسلم : "... كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته..." (متفق عليه).

إن الحكم في الإسلام تكليف ، وإنه عقد التزام وتوكيل، وإن الحاكم في الإسلام مكلف ومسؤول، وعليه الوفاء بما التزمه أمام الله والأمة التي وكلته.

ثالثاً: مسؤولية الأمة :

وهي الدعامة الثالثة من دعائم الحكم في الإسلام، فالأمة هي المخاطب الأول المطالب بتنفيذ الأحكام ، والمكلف شرعاً باختيار الإمام، وما الإمام إلا نائب عنها ، وموكل منها ، فهي مسؤولة عن معاونته ومتابعته في إقامة حكم الله وسيادة الشرع ، ويدل على هذه المسؤولية ويثبتها أمور منها:

1 ـ أن خطاب الله التكليفي موجه للأمة في القرآن الكريم ؛ لأنه يدور بين أمرين: يا أيها النبي، يا أيها الذين آمنوا.

2 ـ وأن أوامر الله وأحكامه ووصاياه في القرآن موجهة للأمة كقوله تعالى: فأصلحوا..، فقاتلوا..، فاجلدوا..، ولا تقبلوا..، فاقطعوا..، يوصيكم الله في أولادكم ...

فالخطاب في جميع ذلك للأمة كلها ـ فهي المسؤول الأول عن إقامة الحق وتنفيذ شرع الله.

3 ـ وأن هذه المسؤولية هي مقتضى عقد الأخوة والموالاة التي جعلها الله بين المؤمنين ، وأكدها بقوله تعالى:" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" (التوبة:71).

فمن ألزم صفاتها النصح، ومن أوجبها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على التقوى، فقد أوجب الله على كل مسلم أن يهتم لأمر أخيه المسلم، ينصره ظالماً: يكفه عن الظلم، وينصره مظلوماً: بإعانته على الظالم للوصول إلى حقه ، بل أوجب ذلك على أمته كلها.

قال عليه الصلاة والسلام: "من لم يهتم للمسلمين فليس منهم" (رواه الترمذي، والبيهقي، والحاكم وغيرهم).

رابعاً : الشورى :

الدعامة الرابعة التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام هي "الشورى" فالحاكم وكيل وأمين، يعمل في خدمة الأمة ولمصلحتها، فمن حق الأمة أن يؤخذ رأيها فيما يريد أن يُعمل لها، وأن تستشار في كل أمر يهمها.

ومن واجب الحاكم أن يرجع إليها ، وأن يستشيرها، وأن ينزل على رأيها ، ويحترم إرادتها، فإنها صاحبة الشأن أولاً وأخيراً، وعليها يقع العبء في تحمل تصرفه صواباً أو خطأ، فلا ينبغي أن يعلن حرباً ، أو يعقد صلحاً ، أو يدخل في أمر مهم إلا بعد مشاورتها وموافقتها ، وهذه أدلة وجوبها.

أـ وشاورهم في الأمر :

قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله "(آل عمران:159).، وهو أمر للوجوب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر لما نزلت هذه الآية: "لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما" ولما سئل عن معنى العزم في الآية قال: "... مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم".

ب ـ وأمرهم شورى بينهم :

قال تعالى يصف المؤمنين القائمين بأمره: والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون " (الشورى : 38) فجعل الشورى مثل الصلاة في الاستجابة لأمر الله، فهي أمر حتمي وواجب.

ج ـ عمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه :

وقد التزمها الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل بها، ونفذها أدق تنفيذ، وخذ مثلاً مكان "بدر" حين وافق الحباب، ومثلاً آخر غزوة أحد، إذ كان في رأيه صلى الله عليه وسلم البقاء للقتال في المدينة مع رأي القلة من الشيوخ، لكن رأي الأكثرية من الشباب القتال خارج المدينة ، فنزل الرسول عند رأيهم وهو كاره، وكانت حصيلة رأيهم الهزيمة، ولكنها مع ذلك أخف ضرراً من هدم قاعدة الشورى في حياة الأمة.

كذلك كان أبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون يستشيرون المسلمين في كل ما ينوبهم من جسام الأمور ، وينزلون على رأي الأغلبية والجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، وبهذه الشورى عاش المسلمون في شمل جامع وأمر رشيد، وإن اختلفوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة نبيه.

قال تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" (النساء : 59)