إشكالية الفن عند تيودور أدورنو، وقراءته للإرث الأستيطيقي:
1- إشكالية الفن عند تيودور أدورنو:
·
الغاية من الفن هو استخدامه كأداة، وظيفته الجوهرية هي
الدعوة للقيم النيوليبرالية.
·
النظام العالمي الجديد دفع الفن إلى إعادة صياغة نفسه
عبر عولمة عملياته.
·
دمج الفن والحياة بعضهما البعض، عن طريق عملية الثقافة
الاستهلاكية.
·
الشركات التي تنتج السلع تقدم الدعم المالي لسلاحها
البحثي والتدويري: الفنون.
·
كلما ازداد اكتساب السلع السمة الثقافية، ازداد تسليع
الفن أكثر مع توسع سوقه، ومع ازدياد تضمينه داخل المسار العام للنشاط الرأسمالي.
يقول ادورنو: “حين تتضاءل أهمية قيمة الانتفاع المادي للسلع، وحيث يصير الاستهلاك
متعة بديلة للوجاهة الاجتماعية… حيث يبدو في النهاية، أن السمة السلعية للمواد
الاستهلاكية تختفي تماما. إنها محاكاة تهكمية للوهم الجمالي”.
·
بدل المجهود الكبير للتقريب بين الفن وعالم الموضة، من
خلال آلية أيديولوجية، من قبيل اعتبار أن الفن والموضة يسيران جنبا إلى جنب أحيانا
بأسلوب راديكالي وصادم، وأحيانا أخرى بطريقة تقليدية ومحافظة، وكلاهما تصدر
الأحكام عليه وفقا لمعايير ذوق ذاتية وكل منهما يمثل بأسلوبه الخاص أجواء العصور
وروحها، إن الفن والموضة، يحفزان الحواس ويصنعن أشياء مرغوبة ومعبودات للمجتمعات
الثرية وتراثيات ثقافية.
·
خضوع المعارض والمتاحف العامة لاكتساب الصفات التجارية
وميول رعاتها التجاريين.
·
أضحى الفن سلعة لها قيمة تبادلية خالصة، تحمل داخلها
ترتيبات الدعاية والرعاية التي من خلالها تشاهد وتباع، فقد أجبر على أن يكون خادما
للإنتاج الجماهيري.
وفقا لكل ما آل إليه وضع الفن حسب أدورنو ، ورغم
كل ذلك، يجب اعتباره ملاذ للخلاص من الوضع المأساوي الذي صار يعيشه الإنسان
المعاصر، إذ أنه البعد الوحيد الذي يمكنه إنقاذ ونقل الوضع الراهن إلى وضع
إنساني جديد مغاير لما هو قائم، في مقابل العقلية الأداتية ذات الطابع الشمولي أو
الكلي الذي يوصف باللاحقيقة.
إن الفن
حسب أدورنو هو تأكيد للتفرد والاختلاف والتميز، باعتباره يسمو على الواقع
الاجتماعي لكن في نفس الوقت هو استجابة لهذا الواقع، فوظيفة الفن حسبه تنبع من
داخل المجتمع نفسه، وهو مجال للتعبير عن التناقضات الاجتماعية القائمة، التي
يعطيها معنى من خلال الابتعاد عن الوصف، والتعالي على المجتمع هو ما يكسبه قوته
النقدية وقدرته على التجاوز.
ولكي يكون للفن قوة نقدية يجب
الانطلاق من العمل الفني بدلا من الواقع، لأن الفن بإمكانه إعادة صياغة الواقع على
نحو مغاير لما هو عليه، ويفتح بعدا جديدا للتجربة الإنسانية، وهو بعد التمرد
الذاتي على ما هو متاح، ويبدو كإمكانية جديدة للوجود الإنسان, وبالتالي
فالعمل الفني هو تعبير عن ما هو ذاتي من خلال تباعده عن الواقع لكن من دون
الانفصال عنه، وهو ما يؤكده أدورنو من خلال قوله ” إن الطابع الاجتماعي للفن يتمثل
في حركته الداخلية ضد المجتمع، وليس أي بيان واضح بخصوص ذلك المجتمع والإيماءة
التاريخية تقاوم الواقع القائم، رغم أن الأعمال الفنية في حقيقة الأمر هي جزء من
ذلك الواقع”.
ونجد حسب أدورنو أنه من بين الأسباب التي أدت
بالاستيطيقا إلى البؤس:
·
قصور الاستيطيقا التقليدية على حل المعضلة الجوهرية بين
الفن والمفهوم الفلسفي، والتي ولدت تحديدا منذ أن قرر كانط منع الاستيطيقا من
المفهوم، واقتراحه مقولة الذوق بديلا عن الحقيقة، ذلك أن مفهوم الحقيقة يبقى حكرا
في نظر كانط على حقل الظواهر في حدود علاقة الذهن والطبيعة.
·
موت الفن بتحوله إلى بضاعة.
وبالتالي فإنه حسب أدورنو
لتجاوز هذا البأس الإستيطيقي يجب على الاستيطيقا أن تتحرك في طلب الحقيقة، فكل
أستيطيقا حسبه لا تتحرك في منظورية الحقيقة تفشل في مهمتها، وهي غالبا ما تكون
استيطيقا مطبخية، ومن أجل ذلك يجب على الفن ألا يبقى غريبا على المفهوم. وبالتالي
حاجة الفن للفلسفة من أجل أن يحيى من جديد، كما يجب على الفلسفة أن تصير استيطيقا،
فالاستطيقا حسبه ليست فلسفة مطبقة بل هي فلسفة في ذاتها. ذلك رهان أدورنو في صراعه
مع العقل الأداتي الذي صار مجالا للصناعة الثقافية، أمام فشل الاستيطيقا
التقليدية في إدراك مضمون الحقيقة فيما يخص الآثار الفنية. فالميزة الأساسية
للفلسفة حسب أدورنو هي كونها تدرك تماما محدودية المفاهيم التي تعمل بها، من خلال
قوله “إن عدم الافتتان بالمفهوم هو ترياق الفلسفة”.
يعلن أدورنو إذن أن الفن يطلب
الحقيقة، وهو بذلك يحتاج إلى الفلسفة، فالإنقاذ الوحيد للاستيطيقا إنما هو فلسفي
في جوهره، وهذا معنى قوله: “يحتاج مضمون حقيقة أثر فني ما إلى الفلسفة،
وإنها ضمنه تتقاطع الفلسفة حقا مع الفن، أو هي تنطفئ داخله”. فأهمية
الفن الطلائعي حسب ادورنو، تكمن في كونه يمكن أن يكون في أقصى درجاته عملية
مفهمة جوهرية، كما أن الفلسفة أن لا تستسلم للفن، فهي كفن تعادل محو
الفلسفة، وعليها أن تبطل نزعتها الجمالية.
على خلاف نظام هيجل يتم
استرداد العنصر المتغاير جدليا بواسطة “نفي النفي” أو نقيض النقيض، يعلن ادورنو عن
مبدأ “الجدل السلبي” مبدأ يرفض أي نوع من أنواع التأكيد أو الايجابية فهو مبدأ
للسلبية التامة، ّإذا هو اللاهوية ” ما لا يمكن التعبير عنه”. فأدورنو
قد أعاد النظر في مفهوم الجدل نفسه وبالتحديد في مفهوم نفي النفي، من خلال كتاب
الدياليكتيك السلبي 1966، فقد جرت العادة على النظر إلى الجدل على أنه منهج
متحرك يسير بالفكر نحو آفاق جديدة، باعتبار التركيب أو نفي النفي لحظة تتجاوز
التناقض بين الإثبات والنفي إلى لحظة أعلى هي عبارة عن نفي للنفي ينتج إثباتا
جديدا وهكذا…، فمفهوم الجدل السلبي يشكك في تجاوز لحظة الإثبات-النفي إلى لحظة نفي
النفي، وبالتالي يبقي الأفق رهين الضبابية، أو على الأقل غير قابل للتحديد
الإيجابي دائما.
لكل هذه الاسباب يتجه ادورنو إلى الموسيقى والفن التقدميين وبصورة خاصة
موسيقى شونبرغ، فقد كان مدفوعا بشدة برغبته أن يرى الأعمال التقدمية الرائدة تتحدى
الآثار التجانسية لعملية تسليع الفن أو المتاجرة به “أي تشييء الفن بحيث أن
المواضيع الفنية تختزل إلى قيمة تبادلية، وتختزل الذاتية إلى حالة مجرد شيء أو
مجرد موضوع بالقيمة التبادلية”. هناك رغبة
عند ادورنو في الحفاظ على قدسية الذاتية المتجسدة في الموضوع الفني، في وجه هجمة
السوق حيث تتساوى القيمة بالسعر. وبهذا يكون ادورنو مشاركا في تجاوز اختزال الفن
والفكر وردهما إلى صناعة الثقافة. ومنه فإن الحديث عن الفن حسب أدورنو صار مشكلة،
لا سيما بخصوص علاقته بالحياة الإنسانية والمجتمع”.
2- نظرية أدرنو الجمالية والإرث الاستيطيقي:
أدورنو والنظرية الفنية
عند كانط:
من خلال كتاب النظرية الاستيطيقية لأدورنو
نجد أن نظريته الفنية تستمد أصولها من نظرية الفن الكانطية وخاصة من خلال مقولة
الجليل إذ نجده يقول:” وحده الجليل هو ما بقي على قيد الحياة عبر كل الحداثة، وذلك
من بين كل الأفكار التقليدية عن الإستيطيقا منذ أفول جمال الشكل”. كما أنه أعجب بتعريف إيمانويل كانط
لمفهوم الجليل قائلًا: “إن كانط كان عميقًا جدًا حينما عرّف الجليل بمقاومة الفكر
لكل قوة خارقة للبشر”. ويقول أيضا، “الجليل الذي خصصه كانط للطبيعة، قد صار فيما
بعد المكون التاريخي للفن نفسه”.
لكن إذا كانت فكرة الجليل هي التي لا تزال
حية من بين كل الإرث الفني، فإن أدورنو يقترح إجراء تعديلات أساسية على هذه الفكرة
التي يمكن أن نلخصها فيما يلي:
·
تحويلها من فكرة الجليل إلى فكرة القبيح. يقول أدورنو “إن ما هو قبيح في عين
مجتمع ما إنما يكشف عن قيم جمالية أخرى”.
·
تحويلها من فكرة عقلية، إلى تعبير عن المقموع والبدائي والمقصي في أعماق ذاكرة
العقل الحديث.
·
تحويلها من تلاعب الظاهر الجمالي الخالي من الحقيقة، إلى الحقيقة بوصفها لغزا
للآلام المخزنة في ذاكرة العصر.
·
تحويلها من المصالحة بين الجليل الاستيطيقي والاحترام الأخلاقي، إلى النفي
الجمالي لعالم لم يتبقى فيه من الجماليات غير غياب المعنى.
لقد بنى أدورنو نظريته من خلال اعتباره أن جوهر الفن هو الجليل، “تعريف الفن
بوصفه في جوهره رغبة في عالم أفضل”، ويبقى كانط في نظر أدورنو أول من أدرك أن
السلوك الاستيطيقي، المتحرر من الرغبات المباشرة، بمعنى فصل الفن عن الواقع
الملموس الذي هو عند ادورنو عالم البضاعة.
فبعد أن تحول عقل التنوير إلى عقل أداتي،
يدفع بالإنسانية إلى البربرية والكارثة الكبرى، يستعيد أدورنو الجليل الذي انساب
عبر نصوص نيتشه، حيث يلتقي كانط ونيتشه حسبه على قمة جبل واحد، كل واحد منهما يسعى
إلى تأهيل الطبيعة أو استعادة الانتماء إلى الأرض، وذلك ضد كل أشكال الهيمنة على
البشر، سواء من أجل جعلهم قاصرين إلى الأبد، أو من اجل الإبقاء على نموذج الإنسان
المنحط. فما أصاب الإنسان من كارثة بعد الحربين، لم يصب الأفراد في أجسادهم فحسب إنما أصاب دائرة المعنى في الصميم فأضحى بذلك اللامعنى مجالا
وحيدا للثقافة في جملتها، لا شيء قد يسعف البشر حسب استيطيقا أدورنو ، غير
اتخاذ الفن وعدا بالسعادة، والسعادة التي يمكن أن توفرها لنا الأعمال
الفنية هي القدرة على الصمود، وهذا ما يعبر عنه الجليل الكانطي حسب ادورنو
باعتباره، “مقاومة الفكر لكل جبروت”. لكن إذا كان أدورنو قد أعجب بكانط في ما يخص مقولة الجليل، إلا أن ما يعيبه
عليه كونه حرم الاستيطيقا من عمل المفهوم، وبالتالي فبفقدان الجميل للمفهوم لم يعد
بوسعه أن يكون مستقبل الاستيطيقا.
أدورنو والنظرية الفنية
عند نيتشه:
يعترف أدورنو في نص paralipomina المصاحب للنظرية الاستيطيقية، ويشيد بمدى أهمية الفلسفة الفنية المضادة
للميتافيزيقا التي افتتحها نيتشه نفسه، حيث يقول أدورنو في هذا الصدد “لقد
طالب نيتشه بفلسفة مضادة للميتافيزيقا لكنها فنية (…)، لا شيء مضاد للفن كما هي النزعة
الوضعية الصارمة لقد كان نيتشه على وعي بكل هذا”. ونجد نيتشه يقول في الفقرة 43 من كتابه
الفيلسوف “لقد كان التاريخ وعلوم الطبيعة موجهة ضرورة ضد القرون الوسطى: المعرفة
ضد الإيمان. ضد المعرفة نوجه الآن الفن: العودة إلى الحياة “، لقد استحضر
ادورنو نيتشه في بناء نظريته، لمجموعة من الأسباب تتميز في باطنها عن ما
جاءت ضدا عليه نظرية أدورنو الاستيطيقية والتي يمكن أن نحصرها فيما يلي:
·
اعتراض نيتشه على حضارة الإنسان الحديث، مقترحا استعادة النموذج الإنساني، أما
ادورنو فيعترض على منطق المجتمعات الكليانية المعاصرة القائمة على الهيمنة على
الأفراد.
·
نيتشه يستعيد ديونيزوس ضد المسيح، أما أدورنو فضد تحويل الثقافة والفن خاصة
إلى بضاعة.
·
نيتشه يدفع بالفلسفة نحو منعرج استيطيقي، أدورنو يدفع بالفلسفة نحو منعرج
سياسي جوهري.
هذه بعض أوجه التمايز بين نظرية ادورنو ونظرية نيتشه الفنيتين، لكن ما يعيبه
ادورنو على نيتشه يمكن أن نلخصه فيما يلي:
·
حرمانه الفن من الكرامة الفلسفية التي يتميز بها مفهوم الحقيقة. إذ بقي على حد
تعبير أدورنو تحت عبادة بودلير للكذب، إرادة تجميل الحياة دون تغييرها، أدورنو إذن
يكون ضد الفن بوصه كذبا، يقول”الآثار الفنية الكبرى ليس بوسعها أن تكذب وحتى حينما
يكون مضمونها سوى مظهر فهو يملك بوصفه مظهرا ضروريا حقيقة تشهد عليها الآثار
الفنية، وحدها الآثار غير الناجحة خاطئة.وبهذا يكون أدورنو قد حارب فكرة نيتشوية
استولت على دائرة الاستيطيقا منذ بودلير وهي القائمة على إقصاء قاطع لكل المقاييس
العقلية والمنطقية والايتيقية من دائرة الفن من أجل حصرها ضمن دائرة الوهم والكذب. ضد نيتشه يعلن ادورنو: لن يكون من الآن
فصاعدا من حق الفن أن يكون كاذبا، وإلا صار مذنبا في حق التاريخ الفعلي الحالي
للبشر، كما لا مجال ثانية لمفهوم العبقرية لأنه العدو الممكن للآثار الفنية.
·
انخراط نيتشه ضمن افق مفهوم العبقرية الرومنسي، الذي افتتحه نقد ملكة الحكم،
فأدورنو يحرر الفن من مفهوم العبقرية، يقول “إن مفهوم العبقرية مفهوم خاطئ، لأن
الآثار الفنية ليست بمخلوقات ولا البشر بخالقين،وثمة يكمن خطأ استيطيقا
العبقرية(…)، ذلك أن المنتجين ليسوا بأنصاف آلهة ولا البشر بمعصومين عن الخطأ، بل
هم أحيانا عصابيين وقتلة.
·
تحويله الفن إلى ضرب من أدب العزاء والبحث عن ضرب من الأمان ضمن مشروع مثالي،
هنا يقترح أدورنو جعل الفن أطروحة مضادة للمجتمع.
أدورنو والنظرية الفنية
عند هيجل:
يحتل الفن مكانة أساسية عند هيجل باعتباره مجال لانكشاف الحقيقة، وليس تشويها
لها كما ذهب إلى ذلك أفلاطون، وتأكيد هيجل على علاقة الحقل الفني بالحقيقة، هو ما
أعطى فكرته راهنية عند ادورنو، وذلك أن هذا الأخير قد تصور مثل هيجل، بأن
الفن ليس صورة مشوهة أو ناقصة للحقيقة بل مجال للكشف عنها ومعرفتها.
من هنا يتفق أدورنو مع هيجل، بأن الفن
يحمل حقيقة ،ولكن الحقيقة حسب أدورنو لا تنفصل عن الوضع الاجتماعي والتاريخي الذي
يعيشه البشر، والفن يكشف عن الحقيقة بما هي إجلاء لزيف وضعية العالم الاجتماعي
والتاريخي، ومن هنا لا يمكن للفن أن يكتسي أي معنى أو أي حقيقة إلا عندما يرتبط
بالوضع الاجتماعي للإنسان ويعبر عن تناقضاته، وذلك لأن مضمون الحقيقة هو مضمون
تاريخي حسب ادورنو. ومن هنا يتعارض مع هيجل في كون الفن يجب أن
يتحرر من المنظورات الميتافيزيقية التي اعتبرته إظهارا للفكرة أو الروح
المطلق.
ادورنو و النظرية الفنية
عند ماركس:
الأطروحة الماركسية اعتبرت أن التاريخ، ليس هو تطابق الواقع والعقل، بل هو
تاريخ اغتراب وهيمنة وآلام متراكمة. وكذلك اعتبار الفن كأيديولوجيا من حيث أنه
يدخل في إطار البنية الفوقية التي هي انعكاس للبنية الاقتصادية، وأنه من واجب
الفنان أن يعبر عن مصالح الطبقة البروليتارية وحاجاتها، واعتبرت أن
الفن الأصيل والحقيقي هو الفن المعبر عن هذه الطبقة ولهذا من
واجب الفنان الملتزم القيام بوظيفته الاجتماعية،ومن داخل هذا الطرح يعيد أدورنو
النظر في هذا الموقف من الفن، إذ أن الفن لا يمكن حصره في إطار طبقي محدد،
أو في التصور البروليتاري الذي يرى أن الفن يعكس الواقع، لأنه يشير إلى علاقة آلية
بين الفن والواقع الاجتماعي، فالفن حسبه ليس مجرد تسجيل جامد لما يحدث في الواقع،
بل يسعى إلى أن يكون هذا الواقع شيئا آخر.
ينادي ادورنو باستقلالية الفن وينتقد النظرية
الماركسية التي تعتبره إيديولوجيا، وتعمل على إبراز الطابع الطبقي للفن، فهذا
يفترض مباشرة بين الفن ومجمل علاقات الإنتاج وتغير الأخيرة يؤدي إلى تغير الفن،
وهذا ينطوي ضمنيا على ضرورة تمثيل علاقات الإنتاج الاجتماعية في العمل الفني، وهذا
التصور ينطوي على تصور معياري يفترض أن هناك رابطة محددة بين الفن والطبقة
الاجتماعية، والفن الأصيل والحقيقي من وجهة هذا المنظور هو الفن الذي يعبر عن وعي
الطبقة الصاعدة، وبالتالي يوحد بين السياسي والجمالي، أي بين المضمون الثوري
والطبيعة النوعية للفن، والواقعية هي الشكل الأمثل للتعبير عن ذلك. ونجد أن أدورنو ينتقد هذا الطرح لأنه لم يفسح
المجال للذاتية والخيال في الفن بوصفهما يمثلان القدرة على تجاوز الواقع وما فيه
من تناقضات.
ونجد أن الخطاب الجمالي عند أدورنو
يستند إلى المرجعية الماركسية خاصة في مسألة العلاقة بين العمل الفني والحياة
الاجتماعية، وذلك أن العمل الفني يتعين أن ينطلق من الحياة الاجتماعية لا أن يبقى
سجين المنظورات الميتافيزيقية والأنطولوجية. وبالتالي فإن ما يعيبه ادورنو على التصور
الماركسي للفن على الأقل عيبين اثنين: أن الفن لا يعدو أن يكون إلا انعكاسا
للواقع، وأن الأثر الفني صار إلى إيديولوجيا خادمة للواقعية الاشتراكية. وهو ما
يدفع بأدورنو إلى التصريح بتفضيله أنذثار الفن على أن يكون خاخما للواقعية
الاشتراكية، فهو يقول “الاستيطيقا المالركسية لم تفهم من الديالكتيك إلا قليلا،
وهذا حالها مع الفن”.
ادورنو والنظرية الفنية
عند فرويد:
ادورنو يقدم نقدا لنظرية التحليل النفسي، من
خلال تركيزها على الحلم واللاشعور ودورهما في عملية الخيال والتعبير عن المكبوت
لدى الإنسان. فالعمل الفني حسب هذه النظرية يبدو وكأنه تدوين مكتوب فيما قبل في
النفس البشرية، ولذلك يعتبر فرويد جميع المواد التي يتألف منها العمل الفني، على
أنها ماضي مختزن داخل الحياة الإنسانية، ووردت عليه خلال اللذات العابثة والكسل
وخبرات السعادة والألم، فالتجارب الحاضرة توقظ في المبدع ذكرى تجربة اسبق تنبثق من
خلالها رغبة في التحقق من خلال العمل الفني. فما يعيبه أدورنو على فرويد أن التحليل النفسي
للفن لديه سجين منطق العلاقة وتمثلها، وهذا ما يعوقه على اكتشاف التعدد الغني
للمعاني في العمل الفني، التي لا يمكن ردها للسيرة الذاتية للفنان فحسب، فكل نص لا
يتيح لنا اكتشاف هوية مؤلفه فحسب، وإنما يتيح لنا إدراك (نص الحياة) من خلال
الخيال الحسي، وأنه يمكن حل لغز النص الفني بالكشف عن الكبت الجماعي، كأسلوب لكشف
الرقابة السياسية على اختلاف العصور، وليس بالكبت الفردي فقط، إذ يقول: “لن يكون
الفنان من هنا فصاعدا عبقريا إلا بقدر ما هو حامل لذات جماعية، إنه صوت المجتمع
وذاكرته في آن”. كما يأخذ عليه ملاحظة هامة تتعلق باهتمام
فرويد بمضمون العمل الفني أكثر من اهتمامه بالسمات الشكلية واللغوية والتقنية،
وهذا يبعده عن الجماليات المعاصرة التي تركز على الآليات التشكيلية بوصفها ثورة في
الفن. وبالتالي فقد أخطأ منظر التحليل النفسي في حق
الفن لأنه حول الفنانين إلى عصابيين والتجربة الفنية إلى حقل من المكبوتات وهو ما
يعبر عنه النص التالي بأسلوب ادورنو: “فمن منظور التحليل النفسي ليس الطابع السلبي
للآثار الفنية سوى العلامة على مسار الكبت الذي يرتسم داخل العمل الفني”.
ونجد أيضا أن الفكرة الهامة التي ركز عليها
أدورنو في تحليله لفرويد في مواضع متفرقة من كتاب النظرية الجمالية ، هي أنه
ليس هناك نظام طبيعي أو منطقي للاشعور وهو مصدر الفن عند فرويد، بالإضافة
للخيال فهذه الطبيعة الخاصة للفن التي تخرج عن منطق الواقع هي ما يميز الفن
على الإطلاق والفنان عند ادورنو هو الذي يحتفظ عمله الفني بشكله الذي يأبى على
الدلالة الجاهزة، ويحتفظ بمنطه الخاص،(…) حيث يسعى من خلاله الفنان إلى تقديم حلمه
الإبداعي كما هو، حتى لا يفقد خواصه الرئيسية حين يدخله في شكل منطقي يمكن تفسيره
بالرجوع لما هو كائن، وليس بالرغبة من التحرر مما هو كائن.