Annonces

المحاضرة الرابعة: الدراما الرومانسية

المحاضرة الرابعة: الدراما الرومانسية

par KARIMA HENNI,
Nombre de réponses : 0

المحاضرة الرابعة: الدراما الرومانسية

جذور الدراما الرومانسية:

      للاتجاه الرومانسي في الأدب المسرحي جذورا تمتد إلى العصر الإيليزابيثي، فقد نشأ في عهد لويس السادس عشر 1643م ما يسمى بالتراجيكوميديا، وهو نوع مسرحي تسرّب إلى فرنسا عن طريق تأثيرات "شكسيبير" والمسرح الإسباني ولكن قوبلت بالنشوز والعزوف لسيطرة المسرح الكلاسيكي آنذاك، وفي النصف الأوّل من القرن التاسع عشر-عهد القنصلية والإمبراطورية – وتراجع الذوق في الدراما الكلاسية عند الفرنسيّين ظهرت الميلودراما نوعا مسرحيا آخر وقد رحِّب به عكس التراجيكوميديا في بداية ظهورها لأن كل الأجواء النفسية والفكرية لطبيعة التلقي المسرحي كانت مهيأة لاستقباله لروح التجديد والتغيير التي طبعت أجيال الرومانسية الأولى التي سئمت من القواعد الكلاسيكية التي قيدت من حريتها الشخصية فوجدوا في فن الميلودراما ضالتهم في الخروج من الكآبة العصرية التي خلفتها الثورة الفرنسية وما تلاها من حروب وكوارث الموت والدمار إلى الاستمتاع بالغموض والمرح والتلذّذ بمظاهر الصفاء والهدوء في الطبيعة، مستمدة موضوعاتها من فروسيات العصور الوسطى الفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية في عصر النهضة والكاثوليكية، وكانت تحتوي على عقدة غامضة وشخصية خائنة وتمزج بين المأسوي والهزلي، ففي حالة تأزم الانفعالات المأساوية يظهر فيها الترويح ببعض العناصر المضحكة "في شخصيات نمطية كالفلاح أو الوصيف لتهدئ من روع المأساوي إلى شيء من النكات والضحك، والنهاية لصالح الشخصية الطيبة وعاقبة وخيمة للشخصية المضادة في العمل الميلودرامي، بأسلوب نثري سطحي يقترب من لغة الواقع اليومي"1.

     ومن الميلودراما ولدت المسرحية الرومانسية بعد الثلث الأوّل من القرن التاسع عشر، بتأثير من مسرح شكسبير الذي وفد في القرن السابع عشر إلى فرنسا ، مع ثلاثة فروق وهي أسلوب الكتابة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-ينظر: عبد الرزاق الأصفر،  المذاهب الأدبية لدى الغرب، م ن، ص66

النثرية لكن نثر شاعري فني ونبيل وسهل التداول، وعقدتها غير غامضة بل سهلة تحل عن طريق الشفقة أو الحزن العظيم، والفرق أو الاختلاف الثالث أنها استقت موضوعاتها من التاريخ الجديد الثورة الفرنسية الكبرى وما عقبها من تطوّرات وتغيرّات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية اجترحت السواد الأعظم من شعوب أوروبا .

       ومن المعلوم أنّ شكسبير كان قد كتب كل مسرحيّاته قبل أن تظهر الكلاسيكية رسميّا فيما يسمى بالمذهب الإتباعي للمسرح القديم وتتبلور في مبائ جامدة في كل من فرنسا وإيطاليا، لذلك لم يلق الإعجاب من نقاد الدراما الفرنسية لتجاوزه لقواعد المسرح الكلاسيكي وخرق حدوده النظرية على مستوى عناصر التأليف الدرامي ووصفوه بالفظاظة والغرابة منهم الناقد فولتير في مسرحية "هاملت"، وظل كذلك حتى تغير وضع الذوق الأدبي بانتشار الأعمال النقدية الإنجليز لدراما شكسبير وما تحتويه من بذور رومانسية في طبيعة الموضوع واللغة الموظفة وتصرف حر لوضع الزمكنة في المسرحية مع المحافظة على وحدة الفعل، وأصبحت مسرحيات شكسبير تعرض في مسارح فرنسا بشيء من التعديل الشكلي المناسب لأذواق الفرنسيين على يد أدباء الرومانسية الذين اختصوا في الأدب التمثيلي في بدايات تكوّن المذهب الرومانسي في أوائل القرن التاسع عشر "فترجم فيكتور هيجو هذه المسرحيات كما ترجم واقتبس ألفلايد دي فيني بعضها مثل عطيل وتاجر البندقية"1 وأصبح المسرح الشكسبيري ملهما لقواعد الدراما الرومانسية ، وفي هذا الصدد صرح "غيزو" عام 1823 وهو مترجم لأعمال شكسبير "الشيء المؤكد أن عهد النظام الكلاسيكي قد ولّى، وأنّ نظاما جيدا ينبغي أن يسود، هو نظام شكسبير الذي يمكن أن يزوّدنا بالخطط التي يجب أن تنتج العبقرية بمقتضاها"2 وقد مهد بهذا التصريح للاتجاه الرومانسي الجديد في الأدب التمثيلي وهو ظهور الدراما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-محمد مندور، الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما، م ن، 35

2-م ن، ص27

الرومانسية ، وبذلك نستطيع اعتباره من المبكرين الرواد للمذهب الرومانسي إلى جانب شاتوبريان والسيدة دوستايل وغيرهم.

فيكتور هيغو ونظرية الدراما الرومانسية

     يأتي دور فيكتور هيجو-Victor hugo في تأصيل المسرح الرومانسي بمسرحيته "كرومويل" ومقدمة نقدية مطوّله عام 1827م في مائة وخمسين صفحة أي تفوق عدد صفحات المسرحية نفسها، أكد فيها كسره لقاعدة وحدتي المكان والزمان في العمل المسرحي واحتفاظه بوحدة الموضوع مع مزجه بين الأنواع المسرحية التراجيديا والكوميديا بتسرب مشاهد من الهزلي إلى التراجيدي أو العكس وحجته في هذا التجديد ضرورة تشابه المسرح والحياة التي يخلط فيها الضحك بالبكاء والجدي بالهزل وهذه فطرة الانسان في العيش، فالمسرح فن قائم على محاكاة الواقع في جوهره، وهي نظرة هيغو تعكس نظرة رواد الكلاسيكية في تراجيديات راسين وكورني وعملاق الكوميديا الكلاسيكية موليير، ولو أن هذا الأخير لم يلتزم بمبدأ فصل الأنواع بصفة مطلقة من خلال خاتماته في بعض تمثيلياته الهزلية، ونجح ف.هيجو- V.Hugo في نهج أسلوب الكتابة في المسرح الرومانسي بلغة نثر فني شاعري ونبيل، ولو أنه أباح الاحتفاظ بالوزن الشعري التقليدي مع المرونة والتلوين شريطة المحافظة على القافية لكنه لم يراعي هو شخصيا هذا في أعماله المسرحية، وهذه إحدى سمات الرومانسيين في ميولهم الفطري للحرية المطلقة، وتعتبر مقدمة كرومويل- Preface De Cromowelمرجعا أساسيا للنقد المسرحي وتاريخه، وقواعد كتابة الدراما الرومانسية، وكان قريبا جدا من أفكار شاتوبريان وهذا طبيعي لانتمائهما لنفس المذهب الفكري لذلك جاءت مقدّمته "تأسيسا لتصوّر رمزي للتاريخ، ولتاريخ الأدب على  نحو خاص"1 ولتاريخ الدراما الرومانسية على نحو خاص جدا، وقد حذا في ذلك نهج شكسبير الكتابي في جل مسرحياته التي قام بدراستها وترجمتها إلى اللغة الفرنسية، وفي ما يلي نورد مشهدا من مسرحية "هاملت" أنموذجا للمسرح الرومانسي الشكسبيري التي استند إليه هيغو في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-فيكتور هيغو، مقدمة كرامويل، بيان الرومانتيكية، م ن، ص28

كتابة مقدمته عندما حسم في مسألة فصل الأنواع بدمجها في المسرح الرومانسي بما يتوافق ونظرية "الترويح الشكسبيري" التي تحدث عنها النقاد في الدراما الرومانسية.

الترويح الشكسبيري وملامح الدراما الرومانسية

     حقّق مشهد من مسرحية "هاملت" أنموذجا للمسرح الرومانسي وهو مشهد هاملت في المقبرة الفاصل الحسم في معركة الخصوم بين القدامى- الكلاسيكيين والمحدثين-الرومانسيّين في القرن الثامن عشر، وكان حجة "هيغو" القويّة في قلب موازين الدراما الكلاسيكية فيما يخص مبدأ فصل الأنواع والوحدات الثلاث، واكتساح الدراما الرومانسية ربرتوار المسرح العالمي بكل كفاءة وتميّز. وفي هذا يكتب محمد مندور في كتابه "الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما" عن فعل التأصيل والتأسيس في نفس الوقت لهذا المشهد للدراما الرومانسية الحديثة.

   هذا المشهد الذي يجري في المقابر، نرى "هاملت" في دوّامة من الأسئلة مهموما حائرا في أمره غارقا في فلسفته الميتافيزيقيّة ونظرته السوداويّة للحياة يتسائل عن كنه الحياة ولماذا يأتي إليها البشر؟ ولماذا يرحلون عنها؟ وما نوع الحياة الأخرى؟ وبينما يتأمل في المقابر والموتى بداخلها هائما في كآبته يظهر في المشهد أحد حفّاري القبور حاملا في يده جمجمة واليد الأخرى زجاجة نبيذ ويسكب النبيذ في الجمجمة يستخدمها ككأس لشرب النبيد، يا لتفاهة الحياة عند هذا الحفار، ويكتشف هاملت هذا بنفسه وهو يتأمل في شخصية الحفار أي إنسان هذا والمشهد مثير للضحك والاشمئزاز في نفس الوقت وهو نوع من "المناجاة الفردية في الدراما الشعري Solliloquy وهي خطبة طويلة –إلى حد ما-تلقيها شخصية واحدة بمفردها ولنفسها، في صوت مسموع، دون مقاطعة.حيث تعبّر الشخصية عن بعض أفكارها الداخلية العميقة ودوافعها، أو تهدف إلى إخطار المتفرجين بمعلومات معيّنة ترتبط بما يجري في المسرحية من وقائع"1 وهذا ما دعى إليه أنصار الرومانسية شعرية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-أسامة فرحات، المونولوج بين الدراما والشعر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، دط، 1997، ص113

الحدث والشخصية في نفس الوقت وتفرّد الإحساس حسب طبيعة الموقف الدرامي للتأثير في المتلقي.

     وهنا يزدوج المشهد برجلين أحدهما من الطبقة النبيلة وهو هاملت الفيلسوف واسع النظرة للكون يفكّر في خبايا الحياة ومصير الإنسان المجهول في قمّة يأسه وعجزه في إيجاد إجابة مقنعة لتساؤلاته في فهم الحياة، والآخر رجل من العامّة أمّيّ لا يفهم بأمور الفلسفة ولا تخطر بباله مثل هذه الأسئلة، فلا يبالي بالحياة ولا يعير لها اهتماما سوى قضاء يومه بالمقبرة مستخفّا بهذه الحياة وبالموتى أنفسهم ويصل به العبث لأن ستعمل جمجمة أحد الموتى كأسا يشرب منها نبيذه، ويظهر التناقض بين الرجلين في موقفهما من الحياة تفاهة الحياة وغموض سرها دون أن نحس بهذا التناقض لأن المشهد يبعث على الضحك في قمة مأساويته بالنسبة للشخصية البطلة وهذا نوع من الترويح يلجأ إليه شكسبير في تراجيدياته العنيفة بإدخال شخصية أو منظر فكاهي خلال أحداثها المأساوية للترويح والتخفيف عن المشاهدين من قساوة المشهد، فيبعث في نفوسهم المتعة بالضحك، مالم يكن مسموحا به في الكتابات المأساوية الكلاسيكية.

     وهذا ما أطلق عليه نقاد شكسبير بالترويح الشكسبيري أي التخفيف من حالة الكآبة التي يثيرها منظر هاملت وسط القبور ومونولوجه الذي تشمئز له النفوس خوف من المجهول، وهذا الإقحام لعنصر الضحك في المشهد لا يجد فيه مبدعه شكسبير  أي عطب في حبكة المسرحية التراجيدية ولا يضعف من الأثر النهائي لها، بل بالعكس يزيد الأثر قوة في النهاية دون أن يصل بالمشاهد إلى التألم بمعنى التأثير السلبي على نفسية المتفرج لحد الضرر النفسي كما هو الحال في المسرح الأرسطي إثارة عاطفتي الخـــوف والشفقة، ويزيده قوّة بتأمّله الفكري الذي يثيره تجاور الضحك والهزلي بالمحزن والمأسوي بشيء من التحليل المنطقي لطبيعة الموقف في المشهد.

     وهنا تكمن عبقرية شكسبير في التجديد والتغيير دون تفكيك لوحدة العمل، ونفس الشيء بالنسبة لمسرحيته التراجيدية "الملك لير"  يركز على "الفكاهة في المشاهد التي تصاحب التعليقات السياسية أي في مشاهد جنـــــــــــــون ليـــــــر وتجواله في العاصفة مع بهلوله، وفي المشاهد التي تدور في العراء

بين (جلوستر) وابنه (إدجار) المتنكر كشحاذ مجنون ، وذلك حتى يبرزها بعيدا عن الطوفان"1 وقد علق النقاد على إقحام مثل هذه المشاهد بما سموه أيضا بالكوميديا السوداء التي تطرح رؤية يائسة تعبر عن عبث الوجود الإنساني دون أن تنتمي لأيهما بصورة كاملة في أسلوب سخري لاذع يبعث على الضحك المستفز.

     وبهذا الخلق والإبداع ولغة التجديد في دراما شكسبير نجذ فيكتور هيغو يبني حجته القوية في بنائه الدرامي الجديد الاتجاه عما كان مسيطرا في أساليب الكتابة الدرامية القديمة، لينتصر للرومانسية ويغلق باب الجدل العقيم الذي استغرق قرن بحاله لتترسخ جذور الدراما الرمانسية بانتصار المحدثين من فلاسفة وأدباء ومفكري القرن الثامن عشر، وبمثل هذه التصورات النظرية والعملية لأعلام المسرح الرومانسي من أمثال فيكتور هيغو وألفريد دوفيني وموسيه وغيرهم حققت الرومانسية حلمها في الأدب التمثيلي بخلق مسرح متحرر من سلطة المسرح التقليدي بأسلوب مختلف مزيج من الشعر والنثر وحتى وإن استفرد بلغة النثر وحدها كما فعل هيغو في مسرحياته كرومويل وهرناني، والملك يتسلّى، وألكسندر دوماس في الأب في كريستين وهنري الثالث، ودوفيني في أوتيلّو وشاترتون على سبيل المثال وليس الحصر، فقد ولد هذا النوع الدرامي من رحم التغيير والتجديد لفلاسفته وأدبائه وشعرائه وتنتهي بذلك أسطورة التقسيم والطبقية- المأساة تختص بمحاكاة الطبقة النبيلة والملهاة تحاكي الطبقة الكادحة- لمبدإ فصل الأنواع المسرحية في نظرية الدراما الأرسطية.

     والحقيقة أنّنا في هذا المقام لا نستطيع أن نحد من آفاق الإبداع في الأدب المسرحي لا عند الكلاسيكين ولا عند الرومانسين، فلولا احتكاك المحدثين بصرامة وجدية وقدسية الفكر الكلاسي لما سمعنا عن المذهب الرومانسي، بتعبير هنري بير أن قوّة الرومانسية تكمن في الكلاسيكية المنتصرة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                                         

1-نهاد صليحة، أضواء على المسرح الإنجليزي، الهيئة العامة للكتاب، دط، 1990، ص73