تعريف الثقافة

        الثقافة في اللغة العربية وكما وردت في معاجم العرب هي مصطلح مشتق من الأصل اللفظي (ثقف) ويطلق على الحذق والفهم والمهارة، والتهذيب والصقل. يقال ثقف الشيء ثقافاً وثقوفة حذقه، ورجل ثقف: حاذق فهم، ونقول فلان مثقف وآخر غير مثقف. ويقال ثقف وثقفا وقافة، صار حاذقا حفيصا فطنا، وثقفه تثقيفا: أي سواه وهي تعني الرمح، إلى تسويته وتقويمه([1]).

        ام من الناحية الاصطلاحية فقد خضع هذا المصطلح لمراجعات وتنقيحات عديدة في الثقافة العربية الإسلامية في سنوات لاحقة نظرا إلى صلته الوثيقة بمصطلح آخر هو "الحضارة". فقد بات أمرا مألوفا عند التطرق لموضوع الثقافة أن يلجأ الباحث للإشارة إلى قرينه وربما رديفه، وهو مصطلح "الحضارة" وكذا مصطلح "المدنية" الذي يلتقي مع المصطلحين المذكورين في بعض الجوانب. فهذه المصطلحات الثلاثة تستخدم بشكل متقابل أحيانا من الناحية الدلالية. فيقال هذا شخص مثقف أو متحضر أو متمدن. فمصطلح "حضارة" مشتق من الفعل "حضر" والحضر خلاف البدو، والحضارة خلاف البادية وهي المدن والقرى والريف، وكذلك في هذا السياق لفظ "الوبر" و"المدر". فالأول يستخدم للإشارة إلى البداوة، بينما يستخدم الثاني للإشارة إلى الحضارة([2]).

        إلاّ أنّ الكتاب الغربيين قد توسعوا في استخدام هذين المصطلحين بشكل خاص في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرون نظراً إلى التطورات المعرفية والبحثية الواسعة التي سادت في البلدان الأوروبية خلال هذه الأزمنة. فمصطلح "الحضارة" يستخدم بشكل عام للدلالة على المصطلح الإنجليزي Civilization، وأمّا مصطلح "الثقافة" فيستخدم للدلالة على المصطلح الإنجليزي Culture، ويستخدمها الكتاب الغربيون للدلالة على معاني المدنية والمعرفة والعقائد والفنون والأخلاق. ففي عام 1954 تمّ إحصاء ما يقرب من (300) تعريف لمصطلح "ثقافة" في كتابات الغربيين طبقا لما ينقله كروبر وكلوكهون (Kroeber and Kluckhohn, 1954). وقد كان التوجه بها نحو الجانب المعنوي للإنسان بالدرجة الأولى من تراث وأفكار ولغة ومعتقدات وغيرها. فمن المفكرين من حصر الثقافة في الجانب المعنوي وهناك من قال: أنّ الحضارة أوسع من الثقافة، أو الثقافة أوسع من الحضارة، أو إنّهما يشملان أحدهما الآخر.

        وأمّا في الفكر الإسلامي فقد قال ابن خلدون (1988 :295) في مقدمته معرّفاً للحضارة: "إنّها تفنن في الترف وأحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله". من جهته يعرف حسين مؤنس (1978 :72 الحضارة على أنّها: "ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته سواء كان الجهد المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودا أم غير مقصود". ومن الواضح أنّ كلمة حضارة هي التي استحوذت على كتابات المفكرين العرب المسلمين في الزمن الماضي والحاضر، ومال هؤلاء المفكرون وكذلك الغربيون إلى ربطها على الأغلب بالجانب المادي للإنسان منذ بدء الخليقة، وتفاعله مع الطبيعة والوقوف أمام تحديات الطبيعة واستئناسها للعيش في الطبيعة والتطور نحو الحياة الأفضل من جراء تسخير ما يوجد في هذه الطبيعة لخدمة الإنسان والرقي به نحو حياة أفضل.

        ولما كانت الدراسات الحضارية والثقافية في الأوساط الأكاديمية قد اتسعت بشكل كبير وتناولت موضوع الثقافة بشكل معمق وشامل من خلال الدراسات الأنثروبولوجية أو علم السلالات البشرية فإنّنا نرى ضرورة استعراض تعريفات مصطلح الثقافة مهمّاً في تحديد مفهوم الثقافة ودلالته بطريقة مضبوطة حتى يتضح المفهوم ذاته وطبيعته ومكوناته، فهناك العشرات من التعريفات وسنستعرض بعضاً منها.

        يرى الدكتور محيي الدين صابر (1987 :12) المدير السابق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أنّ الثقافة هي "مجموعة النشاط الفكري والفني في معناهما الواسع وما يحصل بهما من مهارات، أو يعين عليهما من وسائل فهي موصولة بمجمل أوجه الأنشطة الاجتماعية المختلفة، مؤثرة فيها، متأثرة بها، معينة عليها، مستعينة بها، ليتحقق بذلك المضمون الواسع لها، متمثلا في تقديم شامل للمجتمع في كل جوانب سعيه الحضاري، إنتاجا وارتفاعا، وأخذاً وعطاءً، في تفاعل خصب وعطاء متجدّد".

        أمّا الدكتور محمد عابد الجابري (1988 :14) فيصف الثقافة قائلا: "هي ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ بها جماعة بشرية، وتشكل أمّة أو في ما معناه، هويتها الحضارية في إطار ما تعرفه بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء". ويضيف "هي المصدر الأصيل للخصوصية التاريخية لأمّة من الأمم، عند نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدرته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يعمل".

        أمّا في نطاق الدراسات الغربية فقد عرف تايلور (Taylor, 1871 :1) على أنّها: "ذلك المل المركب المعقد الذي يشمل المعرفة، والاعتقاد الديني، والفنّ، والأدب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في مجتمع ما". من جهته يعرف سابير (Sapir, 1921 : 207) الثقافة قائلا إنّها: "تجمع اجتماعي موروث من الممارسات والمعتقدات التي تحدّد نسيج حياتنا". أمّا كروبر وكلوكهون ( Kroeber and Kluckhohn, 1954 : 181) رائدا الدراسة الأنثروبولوجية في وقت مبكر فيقرران أنّ الثقافة "تتكون من أنماط ظاهرة وغير ظاهرة من سلوك مكتسب منتقل من خلال الرموز، ويشكل الإنجازات المميزة لمجموعة إنسانية، المتجسدة في نتاج براعته وصنعه. إنّ جوهر الثقافة يتكون من أفكار تقليدية مستمدة من التاريخ ومختارة منه وخاصة فيما يتعلق بالقيم المتصلة بها. فالأنظمة الثقافية قد تكون نتاج فعل من جانب واحد. أمّا من الجانب الآخر فقد تعتبر عناصر لأفعال أخرى".

        وترى جودينوف (Goodenough, 1964 :36) أنّ الثقافة لأي مجتمع "تتكون من أي شيء يتوجب على الفرد معرفته أو يعتقده من أجل أن يتصرف فيه بطريقة مقبولة لأعضاء هذا المجتمع مشابها للدور الذي يقوم به أي فرد في هذا المجتمع، ويتوجب على هؤلاء الأعضاء تعلّم كافة الأشياء التي تميّزهم عن الإرث البيولوجي... فالثقافة ليسن ظاهرة مادية، إنّها لا تتشكل من الأشياء والناس والسلوك والعواطف، بل إنّها تنتظم لهذه الأشياء مجتمعة، إنّها الأشياء المختزنة في العقل عند هؤلاء الناس وهي نماذج يتحدّد من خلالها رؤية الظروف والتعامل بها".

        ويؤكد جيرتس (Geertz, 1973 : 89) أنّ "الثقافة هي نظام من المعاني المنتقلة تاريخيا والمتجسدة بالرموز، إنّها نظام من المفاهيم الموروثة التي يعبّر عنها بأشكال رمزية والتي من خلالها يتمكن الناس من التواصل، والمحافظة وتطوير معرفتهم عن الحياة ومواقفهم تجاهها".

        أمّا ساموفار وبورتر (Samovar and Porter 1976 : 7) فيشيران إلى أنّ مصطلح الثقافة يستخدم "للدلالة على مخزون متراكم من المعرفة والتجارب والمعاني، والمعتقدات والقيم والمواقف والأديان والمفاهيم الذاتية، والكون والعلاقة الذاتية مع الكون، والمكانة الهرمية، والأدوار المتوقعة، والعلاقات المكانية، ومفهوم الزمن بواسطة مجموعة كبيرة من الناس من خلال الأجيال عبر كفاح الفرد والمجموعة. تظهر الثقافة نفسها من خلال نماذج اللغة والفكر ومن خلال فعاليات شكلية وسلوكية".

        أمّا العالم هوفستيد (Hofstede, 1991 : 23) فيطرح تعريفا مميّزا للثقافة قائلا: "هي البرمجة الجماعية للعقل الإنساني الذي يميّز أفراداً في مجموعة إنسانية عن مجموعة أخرى. فالثقافة بهذا المعنى هي نظام من القيم الجماعية".، ويضيف في مناسبة أخرى أنّ الثقافة هي (الفكر) + المشاعر + السلوك.

        من جهة يعرّف أولدردج (Aldrige, 1997 : 16) الثقافة على أنّها "ذلك النظام المشترك من المعرفة الرمزية والأنماط السلوكية... واللغة الإنسانية (المحكية والمكتوبة) هي الغراء الرمزي للثقافة الإنسانية".

        وكما ورد في وثائق منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) عام (2002) فإنّ الثقافة هي منظومة من الصفات المميزة من روحية ومادية وتفكيرية ومشاعرية لمجتمع ما أو مجمعة اجتماعية، وتحتوي كذلك على الفن والأدب وأسلوب الحياة وطرق العيش مع بعضهم بعضا، ونظام القيم والتقاليد والمعتقدات.

        أمّا نيوليب (Neuliep, 2009 : 17) فيعرّف الثقافة على أنّها "أنماط من القيم والمعتقدات والسلوكيات القائمة والمشتركة في مجموعة ذات هوية محدّدة من الناس ذوي تاريخ واحد ونظام رمزي لفظي وغير لفظي".

([1]) – لسان العرب لابن منظور/ الجزء الثاني، ص 111.

([2]) – لسان العرب لابن منظور/ الجزء الثالث، ص 215.


Last modified: Saturday, 11 May 2024, 7:19 PM