روّاد الإحياء الشّعري في المشرق العربي

استمرّ تأثير الاتّجاه الإحيائي في الشعر لعقود من الزمن ، ومن أبرز الشّعراء الذين كان لهم فضل في التّأسيس للاتّّجاه المحافظ في الشعر المشرقي الحديث:

محمود سامي البارودي(1839- 1904م)

لقد استطاع أن يعيد الحياة للشعر بعد أن سلبت منه و بذلك نهض بالشعر من قاع منحدر إلى قمة شامخة تكمن قيمته في محاكاة نماذج المجلين من صفوة شعراء العرب والتعبير في الآن ذاته عن نفسه وتجارب حياته فمعارضاته لم تكن معهودة في ذلك الزمن كما بعث بالشعر من جديد بعدما اعتاد الناس على الشعر الركيك المثقل بالمحسنات ،يقول في إحدى قصائده مفتخرا بسيره على نهج القدماء، فيقول( 6[1])

وسرت على آثارهم ولربّما *** سبقت إلى أشياء والله أعلم

محمود سامي البارودي ربّ السّيف والقلم

في شعرية الإحياء.pdf [pdf]

أحمد شوقي( 1868-1932م)

يعتبر رائد الجيل الثاني من مدرسة المحافظين وهو شاعر مصري ولد بالقاهرة وتربى في قصر "الخديوي إسماعيل" ينحدر من أصول متداخلة . وقد أتقن لغات عديدة ، كما نبغ في الشعر منذ حداثة سنّه. والمتأمّل في ديوانيه يلاحظ أنّه تتقاسمه أغراض كثيرة ومواضيع متعددة ،ومن مميزات شعره معارضة القصائد القديمة ، لعلّ من أشهرها معارضته لنونيّة ابن زيدون أشهر شعراء الأندلس ، وجاءت القصيدة محملة بالأشواق والمشاعر الفياضة فقال في مطلعها( 7[2]):

يا نائـح الطلع أشبــاه عـوادينـــا **** نشجى لواديك أم نأسـى لوادينـــــا؟

أمير الشّعراء أحمد شوقي

تعدّ قصيدة "نهج البردة" التي عارض بها "البردة" للبويصري التي مدح بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أهمّ المعارضات الشعرية في العصر الحديث وأكدت على علوّ كعبه والبعد الديني في شعره الذي كان من أهم مضوعات الشعر الإحيائي جاء في مطلعها:

ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ***أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ

رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَداً****يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ

لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً***يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ رُمي

وتميّزت القصيدة بطول أبياتها مع رشاقة فائقة في الأسلوب ، وقد برع أحمد شوقي في المعارضات الشعرية التي كانت سمة شعر التيار المحافظ الذي عمد إلى التغني بأمجاد العرب الخالدة ومن بينها الشعر ديوانهم ، ولعل أمير الشعراء من أشهر وأكثر من هذا الضرب في الشعر حتى تسبّب له في هجوم عنيف من روّاد مدرسة الديوان الذين اعتبروا المعارضات مظهرا لضعف أحمد شوقي وتساءلوا عن مدى حضور شخصيته وصدق انفعالاته مادام مصرا على اقتفاء أثر القدامى وقصر شعره على المناسبات والبلاط على الرغم من كونه أكثر الشعراء غزارة في تاريخ الشعر العربي .

ومما يحسب لأحمد شوقي ويعد من مفاخره ومآثره الخالدة "المسرحيّات الشّعرية" العديدة التي نظمها منذ عام1927م،على غرار "مسرحية قمبيز"، و"السّت هدى"، و"مجنون ليلى "و"عنترة "و كذا مسرحيّة مصرع كليوباترا التيت استمدت موايعها من التاريخ المصري لبعث مشاعر الافتخار بالأمجاد لدى الشعب المصري، قضلا عن مسرحيات نثرية من بينها: "وردة الآس، أميرةالأندلس، " لادياس آخر الفراعنة" واستوحى أحداث مسرحياته من تاريخ المصريين والعرب بغض النظر عن افتقادها في الكثير من الأحيان إلى عناصر البناء الفني.

وللعروبة والإسلام بصوت قويّ، ونغم شجيّ ومن أشهر قصائده نكبة دمشق يواسي فيها أهل الشّام ، وشعره التعليمي التربوي الذي توجه به إلى الناشئة لوعظهم وتقويم سلوكهم من خلال قصائد عديدة.

كما غرّد أحمد شوقي للعروبة والإسلام بصوت قوي ، ونغم شجيّ ومن أشهر قصائده نكبة دمشق يواسي فيها أهل الشام :

سلام من صبى بردى أرقّ *** ودمع لا يكفكف با دمشق

ولم تمنع الغربة أحمد شوقي من النظم في شعر الوطنيات الذي كان أحد أهم الأغراض الشعرية في العصر الحديث وعند شعراء الإحياء بصفة خاصة بسبب الأوضاع المزرية التي عاشتها الشعوب العربية جرا الاحتلال الأجنبي الذي عاث فسادا ومن أشهر أبياته ما جاء في سينيته التي عارض بها "البحتري" إذ جاء فيها:

وطني لو شغلت بالخلد عنه*** نازعتني إليه في الخلد نفسي

ومن إسهامات أحمد شوقي ومحاولاته في تجديد الشعر تلك القصص الشعرية تربويّة نظمها للناشئة يحضّهم على الأخلاق الفاضلة بغية تربيتهم، وتقويم سلوكهم على غرار ما ألفيناه في كتاب كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفّع في العصر العباّسي الذي جاء على لسان الحيوانات وكذا قصص (لافونتين) الشهيرة من الأدب الفرنسي إذ يقول في قصيدة" الثعلب":

برز الثعلـب يومــا*** في شعار الواعظينا

فمشـى في الأرض يهذي*** ويسبّ الماكرينا

ويقول الحمد للــ ***ـه إله العالمينا

ياعباد الله توبوا*** فهو كهف التّائبينا

حافظ إبراهيم (1872-1932)

ويعدّ "حافظ إبراهيم" المعروف بشاعر النّيل من أبرز زعماء الجيل الثالث من شعراء مدرسة الإحياء ، وقد حرص في أشعاره على الدعوة إلى التعلم والتربية المثلى للنساء والدفاع عن اللغة العربية إذ يقول على لسانها ( 8[3]):

أنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ *** فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

دافع زعماء مدرسة الإحياء على حقوق المرأة في التعلم وشجعوها على المشاركة في معترك الحياة الاجتماعية وتقلد الوظائف باعتبار المرأة مصنع الرجال والمسؤولة عن تكوين جيل سليم ومتزن روحيا ونفسيا وأخلاقيا فيقول( 9[4]):

الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها *** أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُولى*** شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ

فالشاعر يردّ التأخر والجمود الذي تعشيه البلاد العربية إلى الأمية التي تعيشها النساء وما يكابدنه من هضم للحقوق وتقصير تجاههن فالمرأة أصل كلّ خير وبخاصة الأمهات اللواتي شبههن بالأشجار المباركة، طيبة الأصل التي لا تنبت إلا الطيب النافع، وأبياته في الأم خلدها الزمن وأثبت صحتها وسلامة منطقها، وبعد مظر قائلها.

ويؤكّد حافظ إبراهيم على ضرورة تأطير حرية المرأة وعدم المبالغة في منحهنّ الحقوق بما يتنافى مع تعاليم الإسلام أو يشوّه جوهرهن المتمثل في العفة والحياء فيقول:

أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً ... بين الرجال يجلن في الأسواق

يدرجن حيث أردن لا من وازع ... يحذرن رقيته ولا من واقي

يفعلن أفعال الرجال لواهياً ... عن واجبات نواعس الأحداق

في دورهن شؤونهن كثيرة ... كشؤون رب السيف والمزراق